أرض تحكي تاريخها

 

 

ريم الحامدية

reem@alroya.info

 

دقّ جرس مُنبهي اليوم بنغمةٍ مُختلفة، وكأنّه لا يوقظني من نوم؛ بل يُوقظ فيّ شيئًا من الحنين، عند الساعة الثانية عشرة والنصف ظهرًا بتوقيت أرض اللُبان كانت رحلتي إلى الجنوب على وشك الإقلاع، رحلة إلى أرضٍ لا تشبه سواها، إلى صلالة التي تفوح منها رائحة اللبان كأنَّها أنفاس التاريخ نفسه.

حين وصلت إلى المطار، كان أول ما استقبلني هو عبير اللُبان، يتسلل بهدوء بين أروقة المكان، كأنه يهمس لي: "أهلًا بكِ في أرضي." تلك الرائحة وحدها كفيلة بأن تعيدني إلى طفولتي، إلى كتب التاريخ التي كانت تروي أن سلطنة عمان هي موطن اللبان، وأن شجره كان يومًا من أثمن ما تُهدي به الأرض العالم وبينما كنت أُنهي إجراءات السفر، فتحت بريدي الإلكتروني لأجد رسالة من شركة أمواج، تحمل جدول أعمال رحلتهم السنوية إلى محافظة ظفار، حيث موسم حصاد اللبان. كان الموعد هذا العام في وادي دوكة، حيث ستحتفل الشركة بوضع حجر الأساس لمركز الزوار ومصنع محمية دوكة، مشروع يُعيد للحكاية القديمة نبضها من جديد، في مبادرةٍ تُعيد للّبان مكانته كمصدرٍ للهوية، وكحكاية لا تنتهي عن العُمانيين وعلاقتهم بالطبيعة، ذاك الموسم الذي يتجدّد كل عام كطقسٍ من الوفاء للأرض.

حين وصلت فندق أنانتارا، كانت الرائحة نفسها تنتظرني هناك، تنساب في الممرات، في أروقة الاستقبال، وفي تفاصيل الضيافة. حتى فنجان القهوة بدا وكأنَّه يبتسم في ظل عبير اللبان. وكأن كل التفاصيل هنا تذكرك أنك في أرضٍ تعرف قيمتها، وتقدّر رموزها، وتعيش تراثها كأنه الحاضر نفسه، كان الشعور داخلي يشبه العودة إلى بيتٍ قديم، بيتٍ أعرفه ولم أسكنه من قبل، لكنه يشبهني ويشبه وطني.

اللبان ليس مجرد شجرةٍ تُجرح لتمنحنا عطرها؛ بل هو ذاكرةٌ تجري في عروق عُمان. استخدمه الأجداد في طقوسهم وصلواتهم، وفي العلاج والعطور والمشروبات، فصار جزءًا من الحياة اليومية، من دفء البيوت، ومن أسرار الجمال والسكينة. إنه الرمز الذي اختزل في رائحته معنى النقاء والصبر والانتماء، وظل شاهدًا على طريقٍ تجاريٍّ كان يومًا شريان الحضارات.

في وادي دوكة، كل شجرة تحكي حكاية، وكل غصنٍ يُقطف منه اللبان يشبه وعدًا جديدًا من الأرض لساكنيها. هنا تتقاطع الشمس مع الريح، والعطر مع الذاكرة، والإنسان مع تاريخه. كل شيء يبدو في انسجامٍ صامت، كأن الطبيعة نفسها تصلي.

وعندما تغادر، لا تفارقك الرائحة، ترافقك في الحقيبة، في الملابس، وفي القلب. تدرك أن اللبان ليس مجرد عطرٍ عُماني، بل هو توقيع الأرض على كل شيءٍ جميلٍ يخرج منها، وأن الجنوب لا يُزار مرة، بل يُسكن فيك إلى الأبد، فاللبان، بما يحمله من عبق وتاريخ، كان وسيظل دومًا رمز الأصالة العُمانية وصداه العميق في ذاكرة هذه الأرض، علامة على هويتها وثباتها عبر الزمن.

الأكثر قراءة