هدف بلا هدّاف

 

 

 

 

خالد بن حمد الرواحي

 

ليس كل هدفٍ له هدّاف… فبعض الإنجازات بلا أسماء.

في مؤسساتٍ كثيرة، تُسجَّل الأهداف، وتُرفع المؤشرات، وتُعلن الإنجازات، لكن حين تبحث عن «الهدّاف» الحقيقي، لا تجد له أثرًا. فبينما يُنسب النجاح إلى القسم أو الدائرة أو الفريق، يبقى صاحب الفكرة الأولى، ومهندس التنفيذ، في الظلّ بلا إنصاف. وتحت شعار "العمل الجماعي"، تُمحى أحيانًا بصمة الجهد الفردي، ويُكرَّس مبدأ المشاركة الشكلية التي تساوي بين من اجتهد ومن اكتفى بالمشاهدة. ومع مرور الوقت، يتحوّل الإنجاز إلى لوحةٍ جماعية باهتة الملامح، يفقد فيها التميّز بريقه، وتذبل روح المنافسة التي تصنع الفارق بين مؤسسةٍ تُنتج الكفاءة، وأخرى تكتفي برفع التقارير. وهنا تتضح الحاجة إلى إعادة التوازن بين روح الفريق وحق الفرد في التقدير.

فالتمييز بين العمل الجماعي والعمل الفردي لا يعني تفضيل أحدهما على الآخر، بل إيجاد توازنٍ عادلٍ يُنصف الاثنين معًا. فحين يُنسب كل إنجاز إلى "الفريق" دون تحديد من قدّم الفكرة أو تحمّل العبء، يختل ميزان العدالة المهنية، ويتحوّل التعاون إلى غطاءٍ للكسل الجماعي. عندها يشعر المبدع أنَّ جهده يُستهلك دون تقدير، وأن صوته يضيع وسط ضجيج الشعارات. ومع مرور الوقت، يبهت الحماس، وتخبو شرارة الإبداع، لأنَّ البيئة التي لا تُنصف الجهد الفردي تُطفئ روح المبادرة، وتستبدل المنافسة الإيجابية بفتورٍ جماعي يقتل الطموح ويُضعف الإنتاج.

ولأنَّ العدالة لا تتعارض مع روح الفريق، فإنَّ المؤسسات الواعية هي التي تُدير هذا التوازن بحكمةٍ وذكاء؛ فهي تحتفي بالمنجز الجماعي بوصفه ثمرة تعاونٍ وتكامل، لكنها لا تغفل عن الإشارة إلى صاحب الفكرة أو من قاد التنفيذ بإخلاص. فالتكريم الفردي لا يُضعف الفريق، بل يُلهمه، ويزرع في أفراده الغيرة المحمودة التي تُشعل الرغبة في التميّز. أما إخفاء الأسماء تحت شعار "نحن فريق واحد"، فهو الطريق الأقصر إلى بيئة رمادية، يتساوى فيها المبدع بالمُتقاعس، فيختفي التمايز، وتفقد العدالة معناها، ويذوب الحافز في روتينٍ لا يُنتج سوى التكرار.

ولا تقف المشكلة عند حدود الإنصاف المهني؛ بل تمتد لتطال بناء الثقافة المؤسسية ذاتها. فحين تُكرّس الإدارات مبدأ "الجميع أنجز" دون وضوحٍ في تحديد المسؤوليات، تتآكل قيمة المساءلة، وتضيع معالم التفوّق داخل المؤسسة. العدالة في التقدير ليست مُجرد عرفٍ إداري، بل ميزانٌ يحفظ الانضباط، ويمنح كل موظف حافزه الطبيعي ليبذل أكثر. وحين يختل هذا الميزان، تتحوّل الاجتماعات إلى استعراضٍ جماعي للنتائج، بينما تبقى الأفكار المُبتكرة حبيسة الصدور، لأنَّ أصحابها أدركوا أنَّ إنجازهم سيُسجَّل في نهاية المطاف باسمٍ آخر.

إنَّ إنصاف المنجزين لا يقتصر أثره على مكافأةٍ عابرة، بل يصنع قياداتٍ قادمة تؤمن بأنَّ النجاح مسؤولية شخصية قبل أن يكون واجبًا وظيفيًا. فحين يرى الموظف أن فكرته تُقدَّر، وأن جهده يُذكر بالاسم، تنشأ داخله علاقة انتماءٍ حقيقية تجاه مؤسسته، لا مجرد التزامٍ براتبٍ أو تعليمات. أما حين يتكرر تجاهل المبدعين، فإنَّ المؤسسة تخسر أكثر من جهدهم؛ تخسر ولاءهم، وثقتهم بجدوى التميّز. فالعدالة في التقدير لا تُكافئ الماضي فقط، بل تزرع المستقبل، وتصنع بيئةً تُخرّج القادة لا المقلدين.

إنَّ بناء بيئة عملٍ عادلةٍ ومنصفةٍ ليس ترفًا إداريًا، بل ركيزة أساسية في طريق التميّز الذي تنادي به رؤية «عُمان 2040». فالمستقبل لا يُصنع بالشعارات الجماعية وحدها، بل بالاعتراف الصادق بكل جهدٍ فردي يُسهم في تحقيق الهدف العام. وحين تتبنّى المؤسسات مبدأ "الهدف له هدّاف"، فإنِّها تُعيد للمنجز قيمته، وللكفاءة مكانتها، وللعمل الجماعي روحه الحقيقية القائمة على التكامل لا التغطية. فالتاريخ لا يذكر الأقسام؛ بل يذكر أولئك الذين صنعوا الفرق ومنحوه معنى. عندها فقط، يصبح الإنجاز قصةً لها اسم، والهدف عنوانًا يُكتب عند من يستحقه أولًا.

الأكثر قراءة