د. سلام محمد سفاف **
في نهاية القرن الماضي، شهدت شركات كبرى سقوطًا مدويًا حول العالم، ولم يكن ذلك بسبب النقص في الموارد المالية أو القدرات البشرية والتكنولوجية، بل بسبب خلل في عقلية القيادة. فقد قدمت لنا شركة كوداك خير مثال على ذلك، تلك الشركة التي تربعت على قمة العالم بلا منازع في مجال التصوير الفوتوغرافي بشعارها الشهير: "اضغط على الزر.. ونحن نقوم بالباقي" حيث هيمنت على سوق الأفلام والكاميرات لعقود متتالية.
بالمقابل كانت القيادة في شركة "كوداك" تعمل بعقلية "المنصب والسلطة"، خاصة في الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي، وتجاهلت التحولات في البيئة الخارجية، ولم تستجب لأحد مهندسيها ويدعى ستيفن ساسون عندما عرض اختراعه الكاميرا الرقمية؛ بل قابلته بالتعالي قائلةً له: "هذا لطيف لكن لا تخبر أحدُا عنه".
آنذاك رأوا بالتكنولوجيا الرقمية تهديدًا لـ"عقلية الصندوق" التي يعملون بها والقائمة على بيع الأفلام والكاميرات التقليدية والورق التي كانت تُدر مليارات الدولارات حينها. فقد كانوا يعتقدون أنهم يستطيعون احتواء التكنولوجيا الرقمية أو تأخيرها لحماية إمبراطوريتهم. ومع هذه العقلية، لا قيمة للأفكار التي تأتي من "الموظفين الصغار"، متجاهلين بذلك التحذيرات الداخلية والبيانات التي تشير إلى صعود الرقمنة، وضرورة التكيف مع المتغيرات العالمية بالمخاطرة والتجديد والابتكار.
ويروي لنا التاريخُ البقية.. فبينما كانت كوداك تتشبث بماضيها، قامت شركات مثل كانون، ونيكون، وسوني باستغلال التكنولوجيا الرقمية، ثم جاءت الضربة القاضية من لاعب لم يكن موجودًا أساسًا في مجال التصوير، وهي: شركة آبل مع الهاتف الذكي ليتحول معها المستهلكون بشكل جماعي إلى التصوير الرقمي ثم إلى التصوير بالهواتف الذكية. وكانت النتيجة انهيار سوق الأفلام الذي كانت كوداك تسيطر عليه.
في يناير 2012، أعلنت شركة كوداك، التي كانت يومًا ما واحدة من أكثر العلامات التجارية قوة في العالم، إفلاسها، وانتهت كشركة صغيرة تركز على تقنيات الطباعة والأفلام للصناعات المتخصصة. لقد تحولت من كونها قائدة لقطاع بأكمله إلى مجرد لاعب هامشي، وذلك نتيجة عقلية القيادة "الملك الذي لا يُمس" وثقافة "الرئيس هو الأعلم".
ويطرح هذا المثال إشكالية العصر: هل القيادة هي منصب مكتوب على بطاقة تعريفية، أم هي عقلية متجددة تقبل التغيير والتعلم؟ القادة الذين يفشلون في زمن التحول هم أولئك الذين يعتقدون أن السلطة الممنوحة تحميهم من الحاجة إلى التغيير الفكري.
قصة كوداك هي النموذج الأمثل الذي يوضح الفرق الشاسع بين "قائد التحول" ذي العقلية المنفتحة، و "الرئيس" صاحب عقلية المنصب والسلطة المطلقة. إنها تذكير قاسٍ بأنه في اقتصاد اليوم، لا تحميك شهرتك الماضية، بل تحميك قدرتك على التكيف والقيادة بالرؤية، وليس باللقب فقط.
وتقدم لنا كوداك دروسًا مجانية في القيادة، أهمها:
- اللقب لا يصنع قائدًا، وكونك "الرئيس التنفيذي" لا يمنحك ذلك حصانة ضد الخطأ، فالقيادة الحقيقية هي رؤية واستشراف للمستقبل، وليست ممارسة للسلطة.
- الابتكار الأكثر خطورة هو عدم الابتكار؛ فالخوف من تطوير نماذج العمل الراسخة هو أكبر تهديد للبقاء حيث يجب على القادة خلق ثقافة تُمكن من توليد الأفكار الجديدة بأي مستوى في المؤسسة.
- التجديد الذاتي قبل التدمير الخارجي، لو أن قادة كوداك امتلكوا الشجاعة لتبني الكاميرا الرقمية بأنفسهم، لكان بإمكانهم السيطرة على التحول والهيمنة على العصر الرقمي.
- الاستماع إلى "الموظفين الصغار"؛ حيث غالبًا ما يكمُن الابتكار الحقيقي في عقول أولئك الأقرب إلى التكنولوجيا والعمليات اليومية، وليس فقط في المكاتب الإدارية العليا.
وفي الحقيقة، يبدو أن قادة العصر يواجهون تحدي في الذهنية القيادية التي تعيق تبني مفهوم التغيير من أجل الاستجابة لتحديات العصر المتغيرة. لذلك يبدو لزامًا على القادة تفكيك التصور التقليدي للقيادة بأنها ليست منصبًا لأن المناصب تمنحك سلطة إدارية لكنها لا تمنحك سلطة التأثير، وتَبني عقلية النمو؛ فالقائد يرى في التحديات فرصةً للتعلم والتطور المستمر.
** أستاذ زائر في الكلية الحديثة للتجارة والعلوم
** وزيرة التنمية الإدارية سابقًا بسوريا
