حين يصبح أعلى منصب في الشركة "وظيفة ظل"

 

 

 

علي عبدالحسين اللواتي

 

تتميز مجموعة من الكوادر الوطنية بمستوى عالٍ من الذكاء الاجتماعي واللباقة، والقدرة على بناء العلاقات والخطاب المتميز، وهي صفات أساسية لا غنى عنها لأي مؤسسة تطمح للنجاح والتوسع.

وفي اللقاءات والمناسبات، تلمع على بطاقات العمل ألقاب قيادية فخمة مثل "الرئيس التنفيذي" و"المدير العام". أو رئيس مجلس الإدارة أو المؤسس مثلاً ولكن، يكمن التحدي الاستراتيجي اليوم في ضمان أن تكون هذه الألقاب انعكاسًا حقيقيًا للكفاءة القيادية، وتنظر إليها بنظرة إجلال، متخيلًا سنوات من الكفاح والخبرة المتراكمة وراء كل مُسمى، لكن حين تزداد هذه البطاقات في جيبك يومًا بعد يوم، تبدأ ملاحظة غريبة، ثمَّة فجوة بين بريق الحروف على البطاقة، وطبيعة الحوار الذي دار مع حاملها.

هذه ليست ملاحظة عابرة، بل هي ظاهرة تكشف عن تحوّل خطير في ثقافة العمل والقيادة؛ فعدد من هذه العناوين الفخمة إما مُتوارَثة، أو ممنوحة لاعتبارات اجتماعية أكثر من كونها تعكس كفاءة حقيقية. لقد تحول اللقب من وسيلة لوصف الدور إلى أداة لتعزيز المكانة الاجتماعية، في عملية أشبه بـ"تضخم معنوي" للمُسميات. وهنا فإننا لا نقصد إطلاقًا التقليل من شأن القيادات الوطنية الكفؤة التي وصلت إلى مناصبها بجدارة وشقت طريقها بالمعرفة والعمل.

النموذج الخفي: "الرئيس التنفيذي" الذي يعمل كـ "مدير علاقات عامة متقدم"

تتبلور هذه الظاهرة في نموذج عمل شبه مؤسس، خاصة في الشركات العالمية التي تدخل السوق العُماني. وغالبًا ما تبحث هذه الشركات عن شاب عُماني يتمتع بشبكة علاقات متميزة، قادر على تحديد مواعيد مع متخذي القرار وتسهيل الإجراءات الحكومية. وهنا يُمنح هذا الشخص لقب "الرئيس التنفيذي" أو "المدير العام" ليس تقديرًا لكفاءته الإدارية، بل ليكون البوابة الذهبية (The Golden Gatekeeper) الذي يفتح الأبواب المغلقة.

النتيجة؟ مجموعة غير قليلة من الشركات التي يرأسها مواطنون بأعلى المسميات، لكنهم في الواقع لا يملكون قرارًا في صميم العمل؛ لا في الاستراتيجية المالية، ولا في العمليات التشغيلية، ولا في التعيينات الفنية الأساسية. دورهم منحصر في "إدارة السياق" المحيط بالشركة – العلاقات الحكومية والمناسبات الاجتماعية – بينما تُدار "النواة الفعلية" للعمل من قبل شريك أو مدير أجنبي. نحن ندرك تمامًا أن إدارة السياق المحيط بالشركة (العلاقات الحكومية والمؤسسية) هي مهارة قيادية استراتيجية لا غنى عنها، خاصة في الأسواق الناشئة. لكن الخلل يكمن حين يتحول هذا الدور الحيوي من عنصر دعم استراتيجي إلى وظيفي أسـاسيّ وحيد، بمعزل عن المعرفة العميقة التي تضمن جودة القرارات المتخذة.

المظهر والمضمون: فجوة تزداد اتساعًا

الأمر لا يقتصر على تقييد الصلاحيات فحسب؛ فالدليل الأكثر وضوحًا هو ذلك الإمكانيات الفنية والتشغيلية لدى بعض من يحملون هذه الألقاب؛ فمنهم من لا يستطيع كتابة تقرير فني متخصص، أو مناقشة تفاصيل الميزانية التشغيلية، أو فهم التعقيدات التقنية لمنتج الشركة مثلا. ليس لأنهم غير قادرين على التعلم بالضرورة، بل لعل النظام المصمم حولهم لا يتوقع منهم ذلك، بل وقد يمنعهم منه.

في المقابل، ولتعويض هذه الفجوة الوظيفية، يلجأ البعض إلى تعويض نفسي عبر "إدارة المظاهر"، مثل عقد اجتماعات متعددة طويلة بلا قرارات حاسمة، أو التركيز على الشكليات، كل ذلك "لإرضاء الجانب النفسي وإظهار الأهمية" أمام المرؤوسين، وهو سلوك يُفاقم من مشكلة الهدر التنظيمي ويُرسخ ثقافة الوهم.

التعمين السطحي: حين يكون القائد نفسه خارج دائرة المعرفة

النتيجة الأكثر كارثية لهذا النموذج هي تجميد عملية نقل المعرفة الحقيقية، وبالتالي إعاقة التعمين الجوهري، فكيف لرئيس تنفيذي لا يملك المعرفة الفنية العميقة أن يخطط لبرنامج تدريبي فعَّال أو أن يكون قدوة يُحتذى بها؟

وتصبح برامج التعمين في هذه الحالة شكلية بينما تبقى قلعة المعرفة الفنية والقيادة الاستراتيجية محصنة. وهنا يتحول الخلل الإداري إلى جرس إنذار اقتصادي، وهو نموذج يذكرنا بـ"التجارة المستترة" للمعرفة والسيطرة الاقتصادية.

الجذر الثقافي: مجتمع "نظري" بلا ممارسة تراكمية

لا يمكن فهم استمرارية هذا النموذج غير المستدام دون الغوص إلى مستوى الثقافة المجتمعية والتنظيمية؛ فهناك ثقافة غير مكتوبة تقبل، بل وتُشرعن أحيانًا، الفصل بين "العلاقة" و"المعرفة"، بين الدور الاجتماعي السياسي للمواطن وبين المهام الفنية والتشغيلية الشائكة. وينتج عن هذا ثقافة تمنح المواطن "الأمور السهلة" وتبقي "المعرفة الحقيقية" بعيدة المنال.

هذه الثقافة تخلق تناقضًا خطيرًا: مجتمعًا متعلمًا نظريًا، متحدثًا بليغًا، يزخر بالعناوين البراقة، لكنه يفتقر في العمق إلى الممارسة التراكمية وقوة القرار الحقيقي المستند إلى خبرة عملية.

على سبيل المثال مؤسس "سناب شات" الشاب إيفان سبيغل؛ فعلى الرغم من النجاح التقني والمالي المبهر لمنصته، واجه تساؤلات جادة من المستثمرين والخبراء حول قدراته القيادية وإدارة الأزمات في ذلك الوقت، بالنظر إلى صغر سنه ونقص خبرته الإدارية المتراكمة. وكان الحل الأمثل -الذي عزز ثقة السوق- هو إدراك الشركة نفسها لهذه الفجوة، فسارعت إلى تعزيز مجلس إدارتها بخبرات قيادية مخضرمة.

ولذا فإنَّ الحل يبدأ من إعادة تعريف المسميات الوظيفية نفسها، بربطها وثيقًا بالوصف الوظيفي الحقيقي والمؤهلات المطلوبة والخبرات المكتسبة، على غرار التدرج الأكاديمي الواضح (مدرس، أستاذ مساعد، أستاذ، أستاذ دكتور) حيث كل لقب يعكس خبرة ومهارات محددة. كما يجب التمييز بين طبيعة المؤسسات؛ فمدير عام شركة ناشئة يختلف في مسؤولياته ومهاراته المطلوبة عن نظيره في مؤسسة كبرى، حينها فقط يستعيد اللقب هيبته، ويُمنح صاحبه التقدير المستحق بناءً على الجدارة الحقيقية.

الخلاصة.. إن الخطوة الأولى في اقتصاد الإنجازات هي تبني هذا التوجه، علمًا بأن ترجمة هذا الحل الجذري على أرض الواقع تتطلب جهدًا تنظيميًا وتشريعيًا مشتركًا من الجهات الرقابية والمؤسسات التعليمية لضمان أن يكون كل لقب هو انعكاس بسيط لعمل استثنائي.

والمخرج من هذه الحلقة المفرغة لا يكون بقرار إداري وحده؛ بل بمراجعة ثقافية جريئة.. مراجعة لقيمة "العلاقات" في معادلة التنمية، ولقدسية "المعرفة العملية"، ولتعريفنا الجماعي للنجاح.

تعليق عبر الفيس بوك

الأكثر قراءة

z