خالد بن حمد الرواحي
في المجالس الخاصة، وفي المقاهي، وعلى وسائل التواصل، يدور الحديث نفسه: "المسؤولون لا يشعرون بنا"، بينما يردّ آخرون في المكاتب المغلقة: "الناس لا يدركون حجم التحديات التي نواجهها".
بين هذين الصوتين تتّسع الفجوة يومًا بعد يوم، حتى أصبحنا وكأننا فريقان متقابلان في مباراةٍ لا حكم فيها ولا نتيجة. فريقٌ يرى في القرارات الرسمية جفاءً وبعدًا عن الواقع، وفريقٌ يرى في النقد الشعبي قسوةً وافتقارًا للتفاصيل. وهكذا، بدل أن نكون "نحن"، صرنا "نحن وهم".
ولعلّ أوضح مثالٍ على هذه الفجوة ما نراه في تفاصيل الحياة اليومية؛ فالمواطن يقرأ خبرًا عن مشروعٍ جديدٍ لتطوير الخدمات، فيبتسم المسؤول فخورًا بما أُنجز، بينما يعلّق المواطن في مجلسه قائلًا: "سمعنا مثل هذا من قبل، لكن ماذا تغيّر؟".
تتكرّر الحكاية مع كل مبادرةٍ وكل تصريح، حتى صار كل طرفٍ يعيش في عالمٍ يظنّ أنه يفهم الآخر، لكنه في الحقيقة يبتعد عنه أكثر. فالمسؤول يرى أن جهده لا يُقدَّر، والمواطن يرى أن الوعود لا تتحقق. وبين هذا وذاك، تضيع اللغة المشتركة التي يفترض أن توحّدهم تحت رايةٍ واحدة: الوطن.
فمن على صوابٍ إذن؟ أَنَحنُ أم هم؟
هل الخطأ في نظرة المجتمع التي تُحمِّل المسؤول كلَّ إخفاق، أم في أداء المسؤول الذي لم يُتقن بعد إشراك المجتمع في القرار؟
وهل يمكن أن نواصل مسيرة التنمية ونحن نتحدث بلغتين مختلفتين: لغة الأرقام والتقارير في جانب، ولغة الهموم اليومية في الجانب الآخر؟
إنّ أخطر ما في الفجوة بين "نحن" و"هم" أنها تُنتج سوءَ فهمٍ دائمًا، وتُضعف الثقة التي تقوم عليها كلُّ نهضة. فالمشكلة لم تعد في القرارات وحدها، بل في الطريقة التي تُفهَم وتُشرح وتُناقش بها.
إنّ هذه الفجوة لا تُولد من فراغ، بل تتغذّى من غياب الشرح والإنصات معًا. فحين تُطرح القرارات بلغةٍ فنيةٍ لا يفهمها الناس، وحين يُعبّر الناس عن قلقهم بلغةٍ انفعاليةٍ لا تصل إلى صانع القرار، تتآكل الثقة تدريجيًا حتى تتشكّل "فجوةٌ مؤسسية" بين الطرفين.
لقد أدرك مهاتير محمد هذه المعادلة منذ اللحظة الأولى لنهضة ماليزيا، فحوّل رؤية بلاده إلى لغةٍ يفهمها الجميع، من الوزير إلى سائق التاكسي. لم تكن تلك الرؤية وثيقةً حكوميةً جامدة، بل ثقافةً وطنيةً حيّة يتحدث بها الجميع، حتى أصبح المجتمع كله فريقًا واحدًا يعرف الهدف ذاته ويؤمن بالطريق نفسه.
أمّا نحن، فما زلنا في كثيرٍ من الأحيان نعيش معادلةً معكوسة؛ إذ يُقدّم المسؤول رؤيته بلغةٍ رسميةٍ مغلقة، ويتلقّاها المجتمع بشكٍّ وتوجّسٍ لأنه لم يُشرك في صياغتها أو متابعتها. وهكذا يتحوّل الحوار إلى مواجهة، لا إلى شراكة.
إنّ بناء جسر الثقة لا يتحقّق بالخطابات ولا بالمؤتمرات؛ بل بالحوار الصادق والمشاركة الفعلية في القرار. وحين يدرك المسؤول أن التواصل مع الناس ليس ترفًا؛ بل واجبًا وطنيًا، ويدرك المواطن أن النقد بلا معرفة لا يصنع إصلاحًا، تبدأ المسافة بين الطرفين بالانكماش.
فالشفافية ليست أن تُعلن الأرقام فقط، بل أن تُشرح بوضوحٍ وتُربط بحياة الناس اليومية. والمشاركة لا تعني مجرد الاستماع إلى الملاحظات، بل تحويلها إلى جزءٍ من عملية التطوير. وعندما يتحدث الطرفان بلغةٍ واحدة، تتحوّل طاقة النقد إلى وقودٍ للتصحيح، ويصبح الحوار وسيلةً للبناء لا للهدم.
وعندها فقط نكون "نحن" لا "نحن وهم"، لأنّ كلَّ طرفٍ سيجد نفسه جزءًا من الحل لا من المشكلة.
في النهاية، لسنا في معركةٍ بين صفَّين، بل في رحلةٍ وطنيةٍ واحدةٍ تحتاج إلى كلّ يدٍ وعقلٍ وصوت. فالمسؤول ليس غريبًا عن المجتمع، والمجتمع ليس خصمًا للمسؤول؛ إنهم أبناءُ بيتٍ واحد، قد يختلفون أحيانًا في الرأي، لكنهم يتفقون دائمًا في الغاية.
وحين ندرك جميعًا أن النقدَ ليس تهديدًا، وأن الدفاعَ ليس إنكارًا، سنكتشف أن الحلّ لم يكن في "من على صواب؟" بل في "كيف نصنع الصواب معًا؟".
فحين نكفّ عن السؤال: "نحن أم هم؟" ونبدأ بالعمل بروح "نحن فقط"، سنجد الطريق أقصر، والرؤية أوضح، والوطن أقرب إلى ما نحلم به جميعًا.
