إسماعيل بن شهاب البلوشي
في التاريخ الإنساني الطويل، لا تتكوّن الحضارات من فراغ، بل هي نتاجٌ لتفاعلٍ عميق بين الإنسان وبيئته؛ فمن ثلوج الشمال إلى رمال الجنوب، ومن مطرٍ غزيرٍ يروي الأرض إلى شمسٍ حارقةٍ تُلهبها، تنشأ الفروق بين الشعوب في الفكر والسلوك والنظام. والسؤال الذي يفرض نفسه اليوم: إذا كان البرد القارس والمطر قد أجبر أممًا على التحضّر والتنظيم والصناعة، فلماذا لم تُجبرنا الشمس والقيظ على التحضّر نحن أيضًا؟
البيئة ليست مجرد مناخٍ، بل هي مدرسة قاسية تصنع العقول والسلوك. في الشمال، حيث يطول الشتاء وتشتد الرياح، تعلم الإنسان أن يستعدّ للمواسم، وأن يُخطّط لكل خطوة، وأن يُنظّم وقته ليعيش. المطر هناك لا يرحم من يتأخر، والثلج لا ينتظر من يتكاسل. فكانت النتيجة أن تشكّلت حضارة تقدّس الوقت وتُؤمن بالنظام، لأن فوضى ساعةٍ واحدة قد تعني موتًا أو مجاعة.
أما في بيئتنا العربية، فقد أعطتنا الشمس دفئها وكرمها، ولكنها أيضًا أغرتنا بالراحة. فالطبيعة التي لا تفرض الخطر، لا تفرض النظام. وعندما يكون الطعام متاحًا طوال العام، والمأوى لا يحتاج جهدًا كبيرًا، يصبح الإنسان أقل حاجة إلى التوقيت والدقة والتخطيط، فيميل إلى العفوية والتلقائية. وهكذا وُلد الفارق الأول بيننا وبين من سكنوا البرد والضباب.
دعونا نأخذ مثالًا بسيطًا لكنه بالغ الدلالة: مواقف الحافلات ومحطات القطارات. في أوروبا وآسيا، محطة القطار ليست مجرد مكان للانتظار، بل منظومة حياة؛ فيها الانضباط، والدقة، والنظافة، والتجارة، والخدمة. كل دقيقة محسوبة، وكل تفصيل محسوب.
أما في كثير من بلداننا العربية؛ فالمشهد مختلف. نرى مشاريع ضخمة وقرارات رسمية وإنفاقًا كبيرًا، لكن حين تصل إلى الميدان، لا تجد مظلة تحميك من الشمس، ولا جدولًا يوضح التوقيت، ولا احترامًا للمواعيد. والنتيجة أننا نملك المؤسسات بلا روح، والقرارات بلا تطبيق. فهل الخلل في المال؟ أم في الفكر؟ أم في ثقافة العلاقة بين المواطن والنظام العام؟
في الحقيقة، ليست المسألة مناخًا بقدر ما هي استجابة إنسانية. فاليابان، مثلًا، عانت الزلازل والمطر والعواصف، لكنها قررت أن تُسخّر الطبيعة لصالحها، فبنت أعظم حضارات الانضباط والتقنية. ودول الخليج كذلك، تمتلك صحراء قاسية وشمسًا حارقة، لكنها حينما قررت أن تزرع وتبني وتنظّم، غيّرت وجه الصحراء.
إذن، ليست الشمس ولا القيظ هما المانع، بل طريقة تعاملنا معهما. نحن نعيش في بيئة تمنحنا كل مقومات الإبداع لو أحسنّا قراءتها؛ الصحراء ليست عائقًا، بل يمكن أن تكون معملًا مفتوحًا للطاقة الشمسية والسياحة والفكر الحر. لكن المشكلة أن بعض الإدارات لا تزال تفكر بعقلية المكتب المغلق لا بعقلية الإنسان الذي يعيش في الشمس.
التحضّر ليس في البنايات، بل في طريقة التفكير. ليس في إنشاء مديريات جديدة، بل في إحياء روح العمل داخل المديريات القائمة. ليس في عدد الحافلات المكيفة، بل في وجود موقف بسيط يحترم الإنسان. فلو كان لكل مسؤول مقياس واضح للنتيجة لا للوظيفة، لما وجدنا مباني كبيرة بلا خدمة، وموازنات بلا أثر، ومشاريع تبدأ ولا تكتمل.
ربما آن الأوان أن نعيد تعريف علاقتنا بالشمس؛ فهي ليست عدوَّنا، بل أستاذتنا. علمتنا الصبر، والانتظار، والجلد. وكل ذلك يمكن أن يكون أساسًا للتحضّر الحقيقي لو استثمرناه في الانضباط والإنتاج. حين نحترم الوقت كما نحترم الراحة، وحين نخطط كما نحلم، سنصنع حضارة جديدة تُوازي ما صنعه المطر والثلج في الشمال.
كنت أتمنى وبعدما تم تسيير حافلات جميلة في مسقط العامرة برحمة الله أن يساير ذلك مواقف مظللة جميلة أيضًا، وكنت أتمنى أن أرى قائمة وتوقيتات وانضباط وصرامة.
لست أعلم من يسير هذه الحافلات لكني متأكد أن هنالك مسؤولين ومكاتب مكيفة ورواتب عالية ومدير بمزايا فليته يكلف نفسه ويجلس في مكان انتظار المستخدمين لهذه الحافلات ليتأكد أن المزايا التي يأخذها مستحقة ويسعد بما يأخذ ويعظم الفائدة ليستفيد غيره وليشغل أهل وطنه لا قد يكون ما يأخذ من الخسائر المالية وهو تحت المكيف.
آن الأوان للشخصنة في كل شيء لأن التعميم لم يجلب شيئًا.
عُمان هيثم المُعظم تستحق التميز والأفضل.
