د. محمد بن عوض المشيخي **
من المؤسف حقًا أن تكون بلاد العرب البيئة الحاضنة والمكان الأمثل والأصيل لصناعة المؤامرات وزرع الفتن وتأسيس المليشيات الإرهابية بتمويل رسمي من بعض الزعامات العربية؛ بل وفي كثير من الأحيان بشراكة مع الحكومات الغربية كما هو الحال وما أكدته مراكز البحوث المتخصصة في دراسة الإرهاب الدولي العابر للقارات؛ إذ لم تكن التنظيمات المعروفة بـ"القاعدة" ثم "داعش" إلّا نتائج لهذا التعاون الشيطاني بين أجهزة المخابرات الغربية وأعوانهم من أنظمة عربية تهدف بالدرجة الأولى إلى تشويه الإسلام والمسلمين، والعمل على القضاء على الغايات والطموحات الكبرى للأمة الإسلامية، وإبعاد المجتمعات والأفراد عن الجهاد الحقيقي في سبيل الله لتحرير المقدسات واستعادة فلسطين المحتلة من الصهاينة.
لقد تابعت مثل غيري من الملايين الإبادة الجماعية التي تعرض لها الأبرياء من الأطفال والنساء في مدينة الفاشر بالسودان، وهي لم تكن الأولى ولن تكون الأخيرة؛ ذلك لكون أن الذي سلَّط تلك العصابة الإجرامية على الشعب السوداني هم من أبناء جلدتهم، ولكن بتوجيه من الخارج؛ فهذه الحرب تدار بريموت كنترول من أعداء الأمة من خارج الحدود؛ فالتمويل المُباشر حسب توصيف مجلس الأمن الدولي جرى بأموال عربية تشتري السلاح بشكل رسمي كواجهة رسمية، ثم يتم تسليمه بعد ذلك لميلشيات الدعم السريع؛ وذلك لإعادة تصويبه إلى صدور المواطنين السودانيين المدنيين في أرجاء هذا البلد الجريح الذي تتقاذفه القوى الأجنبية تارة، وبعض المتعهدين من بعض الأنظمة الخليجية تارة أخرى، كالتي وُكِّلَ لها من الدول الاستعمارية زرع الفتن ونشر الحروب وإعداد أمراء الحرب من الجنرالات لتدمير الدول العربية وأنظمتها من الداخل، بهدف معروف هو تقسيم المُقسَّم في الأصل في بلاد العرب من القوى المُعادية.
الذي يحدث في السودان ليس ببعيد عن نزيف الدم وسياسة القتل والتجويع في غزة وليبيا واليمن وسوريا منذ سنوات طويلة؛ فهناك جهات معروفة تفتخر بتلك الأعمال الإرهابية ولا تخاف من كائن من كان، خاصة التبعات القانونية لتلك الجرائم التي يشيب لها الرأس، والتي لا يُمكن بأيِّ حال من الأحوال أن تسقط عن مدبريها ومموليها بالتقادم؛ فهناك يوم للحساب مؤكد، وقد يكون في لاهاي وربما في الخرطوم؛ فلكل قاتل وظالم أيام قادمة لا تحيد عن المحاسبة واسترجاع الحقوق ولو بعد حين. وكما قيل في الماضي "كما تُدين تُدان" وهذه هي القوانين الإلهية ثابتة وغير قابلة للتعديل.
ومن المفارقات العجيبة أن هذا العبث بأمن الأمة العربية لم يتوقف عند حد توزيع سلاح القتل؛ بل وصل الأمر إلى جلب المرتزقة والشركات التي تعمل فيها عصابات إجرامية عابرة للحدود من دول معروفة لقتل الآمنين دون ذنب، ويقف خلف ذلك السيطرة ونهب مناجم الذهب والثروات الطبيعية التي تشتهر بها السودان.
وبالعودة إلى قصة نضال الشعب السوادني في التحرر من الأنظمة الاستبدادية، نتذكر الانتفاضة الشعبية التي قادها الشعب السوداني عام 2019، وأجبرت نظام عمر البشير- الذي وصل إلى الحكم عام 1989 عبر انقلاب عسكري- على التنازل عن الرئاسة للشعب، لكن هذا النضال لم يؤتِ ثماره؛ إذ أجهضه الجنرالات كما جرت العادة في مثل هذه الأحوال، فقد وعد كل من قائد الجيش السوداني وقائد الدعم السريع بتسليم السلطة إلى الشعب بعد إجراء انتخابات عامة بين الأحزاب السودانية خلال الفترة الانتقالية التي يقودها مجلس السيادة الذي يتكون من كبار القادة في الجيش وقوات الدعم السريع. لكن ما حدث أن هؤلاء الجنرالات تمسكوا بالسلطة لمدة 4 سنوات حتى منتصف أبريل من عام 2023، واختلف على السلطة أصدقاء الأمس عبدالفتاح البرهان رئيس مجلس السيادة وقائد الجيش السوداني ونائبه محمد حمدان دقلو (الشهير بحميدتي) قائد الدعم السريع. إلّا أن قائد الدعم السريع قاد تمردًا عسكريًّا بمساندة من الخارج.
السودان الجريح يتعرض الآن لخطر التقسيم مرة أخرى من قوى عربية وأجنبية وكذلك من دول الجوار خاصة إثيوبيا وكينيا.
أين السودان اليوم من الجنرال عبدالرحمن سوار الذهب- طيب الله ثراه- الذي كان الاستثناء الوحيد في هذه الأمة، وذلك عندما استلم السلطة من الرئيس الأسبق جعفر النميري ثم سلمها طوعًا بدوره للحزب الذي فاز بالانتخابات وهو حزب الأمة السوداني.
في الختام، العرب اليوم من المحيط إلى الخليج ينظرون إلى القيادات التاريخية التي هي صاحبة الحل والعقد عند حلول الكوارث والانتكاسات بلداننا العربية؛ إذ نتذكر جميعًا كل من جمهورية مصر العربية والمملكة العربية السعودية لإنقاذ ما يمكن إنقاذه في هذا البلد العربي الحليف للرياض والمساند له في كثير من الأحداث خاصة عاصفة الحزم؛ وكذلك القاهرة حيث يعتبر السودان جوارًا استراتيجيًا لأمن مصر واستقرارها؛ وذلك للعمل على وقف نزيف الدم ومنع الإبادة الجماعية في السودان وقطع الأيادي الآثمة التي تقتل المدنيين الأبرياء على الهوية، وقبل ذلك كله وقف تمويل أمراء الحرب، والدعوة إلى انتخابات بإشراف الأمم المُتحدة. وبالفعل حان الوقت لجنرالات السودان جميعًا للعودة إلى ثكناتهم وتسليم السلطة للشعب السوداني بأسرع وقت.
** أكاديمي وباحث مختص في الرأي العام والاتصال الجماهيري
