ضيق الحال وإغلاقات العوز

 

صاحب السمو السيد/ نمير بن سالم آل سعيد

يُواجِه المرء الحياة ولديه ما لديه من احتياجات ورغبات مادية يسعى لتحقيقها، ولا سبيل لذلك إلّا بالمال، وإذا انعدم المال أو نقص لتلبية المتطلبات المادية الضرورية، فإنَّ مستوى التعاسة والإحساس بالعجز وعدم القدرة على الحياة بطريقة سلسة مريحة يتصاعد ويزيد.

وتغدو الحياة ثقيلةً على النفس دون المال، ويكون المرء فاقدًا السيطرة على كثير من مجريات أموره، عاجزًا عن تلبية احتياجاته حتى البسيطة منها. ويجد أبواب الدنيا مغلقة ومفاتيحها المال، ولا مال عنده، فيُقاسي الحرمان بصمتٍ وحزنٍ وألمٍ نفسيٍّ، عالقًا بين هذه الأبواب المغلقة، لا يستطيع الولوج إلى الجانب الآخر من الحياة؛ حيث الراحة والرفاهية والرخاء والاستمتاع والإشباع المادي المعنوي. ولا يملك إلّا المعاناة اليومية المستمرة التي لا تنتهي، أو فقدان كرامته في استجداء المال من هذا وذاك، كمسكناتٍ مؤقتة لحالته السيئة التي وجد نفسه فيها.

وعادةُ غالبيةِ الناس أنهم لطفاءٌ طيبون، ما دُمت لا تطلب منهم المال، فإذا لجأت إليهم لطلبه تبدَّلوا وتغيَّروا وانقطعوا عنك مُبتعدين. ويُفضِّل الناس التهرُّب من منح المال أو إقراضه للآخرين؛ لأنهم يعتقدون أنه لا ضمان لاسترجاعه، فيمتنعون حتى لا يدخلوا في دوامة المطالبة بحقهم أو التفرُّغ لملاحقة المَدين فيما بعد، وربما بعضهم لا يستطيع المساعدة في ذلك أصلًا؛ إذ لهم من الهموم المالية ما يكفيهم.

أمَّا الأشخاص الذين على باب الله، وليس لديهم معارف وسندًا؛ فوضعهم أصعب لأنهم يتصلون بالغريب، والغريب لا يرحم من لا يعرفه إذا كان الشأن يتعلق بالمال أو إذا تكرَّم تجاوزًا؛ فالعطية "لا تُسمن ولا تُغني من جوع".

الله يكون في عون هؤلاء الذين ليس لديهم مصدر دخل شهري يعيشون عليه هم وعائلاتهم، ونسأل الله أن يرفع عنهم العُسر ويمنحهم اليُسر؛ فهُم يعيشون في مشقَّة وكبد، وبالكاد يستطيعون الاستمرارية الحياتية من خلال معونات أهل الخير من هنا وهناك.

أمَّا من لديه عمل براتب ضعيف فوضعه أفضل قليلًا، لكنه لا يستطيع به مواكبة تكاليف الحياة وطوارئها ومستجداتها، ولديه أيضًا احتياجاته ورغباته وطموحاته في تحسين نمط حياته؛ فيجد القرض هو المخرج الوحيد لأزماته المالية فيلجأ إلى البنوك وشركات التمويل التي يجدها فاتحة ذراعيها له بالترحيب والمودة، مع ضمانات بسيطة يُقدِّمها ليجد نفسه في ليلة وضحاها قد تم إيداع القرض الشخصي باسمه في حسابه.

وللكل احتياجاته؛ فمنهم من يريد أن يدفع المبلغ لابنه للحصول على تعليم جيد في الكليات الخاصة على أمل الحصول على وظيفة مناسبة، ومنهم من يريد شراء سيارة، ومنهم من يريد تغطية مصاريف الزواج أو بناء منزل أو الدخول في مشروع يجني منه المال.

إنها سعادة مؤقتة تُخرجه من حيز العوز، وإذا به بعدها يتعثر في دفع الأقساط الشهرية للبنك أو شركات التمويل لعدم القدرة على تسديد ما عليه لأسباب مختلفة؛ منها فقدان الوظيفة بسبب التسريح عن العمل أو انخفاض الدخل المفاجئ وارتفاع تكاليف الحياة، أو زيادة الالتزامات المالية الطارئة، أو سوء إدارة المال الخاص. ويجد الفرد نفسه مُهددًا بالسجن بسبب عدم القدرة على تسديد الدين للبنك أو شركة التمويل، وإذا به يَصدُر عليه تعميم وأمر بالقبض عليه، مع امكانية استخدام القوة إذا اقتضى الأمر، واتخاذ ما يلزم من إجراءات جبرية بحقه للقبض عليه في أي من أمكنة تواجده دون استثناء.

القانون تم تكييفه ليحمي من أقرضَ المال، فحرمانه من استرداد حقه خسارة له وظلم، ولكن أيضًا السجن لا يُعيد المال للدائن. والمدين يخسر حريته وأحيانًا وظيفته وبعضًا من كرامته من الناحية الواقعية، وكذلك تعطيل إنتاجيته، وهو ما يقف حائلًا دون السعي لتسديد دينه. وكيف يفعل ذلك وهو محبوس في السجن. والمطلوب من المدين أن يُثبِت عجزه الكلي عن السداد، لكن كيف يفعل ذلك والفقر صعب إثباته عمليًا على عكس الغِنَى الواضح للعيان، وبذلك يُدان المتهم بالمماطلة في دفع الدين ويبقى في السجن بلا حول له أو قوة.

ولدينا في سلطنة عُمان قانون الإفلاس التجاري الذي يحمي الشركات من المطالبات القانونية، إذا ثبت العجز المالي التجاري الحقيقي أمام المحكمة بعد تصفية بيع الأصول.

في المقابل، هناك غياب لقانون إعسار مدني شامل في السلطنة، يضم الإعسار الشخصي للأفراد ليُتيح إعادة جدولة الديون ومنع السجن نهائيًا في مثل هذه الحالات، مقابل الشفافية والتعاون والالتزام، وإذا لم يتم إصدار هذا القانون وتطبيق هذا النظام، تبقى الحماية من الدولة لهذه الفئة محدودةً.

الأكثر قراءة