الطليعة الشحرية
في خضمّ سباق المؤسسات الحكومية نحو "التميّز" و"الكفاءة"، وُلدت منظومة الإجادة الفردية كأداة يُفترض أن تحفّز الأداء وتكرّس العدالة في التقييم، غير أن الواقع الذي تكشفه التجربة اليومية، وما أكّده تقرير جهاز الرقابة الإدارية والمالية للدولة لعام 2025، يُظهر أنَّ هذه المنظومة تحوّلت- في بعض تطبيقاتها- إلى عبء إداري ونفسي؛ بل إلى مدخلٍ ناعمٍ للفساد التنظيمي المقنَّع بشعارات التطوير والتحفيز.
أشار تقرير جهاز الرقابة بوضوح إلى أن منصة "إجادة" تُدار حاليًا من شركة خاصة، وأن وزارة العمل لا تمتلك صلاحيات مباشرة في تشغيلها أو إدارتها الفنية. وهذا القصور الرقابي- كما وصفه التقرير- أوجد فجوة في السيطرة على البيانات والقرارات، وأضعف قدرة الجهة الحكومية على الإشراف والتصحيح. وقد أوصى التقرير بضرورة نقل إدارة المنظومة إلى الوزارة ابتداءً من مارس 2025، وتطبيق ضوابط صارمة لحماية البيانات وضمان الشفافية في الترشيحات والمكافآت؛ هذه الملاحظة الجوهرية تضعنا أمام سؤال وطني مهم: كيف يمكن لمنظومة تدار من خارج الإشراف الحكومي الكامل أن تكون أداة عادلة لقياس أداء موظفي الحكومة؟
وتحت شعارات "الكفاءة" و"الأداء العالي"، تحوّلت المنظومة عمليًا إلى بيئة تنافسية مضخّمة تقوم على الفردانية لا الجماعية. فبدل أن تُعزِّز روح الفريق، زرعت التمييز الطبقي والتنافس المَرَضي داخل المؤسسات. تساؤلات من قبيل: "لماذا لم أُرشّح؟"، "هل شهادتي تكفيني؟"، باتت تعبّر عن خلل في العدالة المؤسسية، وحين يصبح التقدير مرهونًا بالانتماء الإداري أو "دعم اللوبي"، لا بالكفاءة والجهد، تتحوّل الإجادة من حافز إلى أداة إقصاء ممنهجة.
أكدت دراسة "هارفارد بزنيس ريفيو" لعام 2021 أنَّ الأنظمة الفردية المنعزلة عن الواقع التنظيمي تقلل الإنتاجية بنسبة 18% وتزيد التوتر بنسبة 25%، خصوصًا في البيئات ذات القيادة الهرمية والسياسات الغامضة، وهي أوصاف تتطابق جزئيًا مع المشهد الوظيفي لدينا.
الفساد لا يُقاس فقط بالرشاوى أو الاختلاسات، بل أيضًا عندما تُشوَّه العدالة التنظيمية، فحين تُستخدم أنظمة التقييم الفردي كغطاء لقرارات إدارية مسبقة أو لتبرير تمييز غير مشروع، يتحول "التطوير" إلى سلوكٍ إداري فاسد في جوهره.
تقرير جهاز الرقابة أشار إلى أن ضعف الحوكمة في إدارة "إجادة" يفتح الباب أمام ممارسات تُضعف مصداقية الأداء العام، وهو ما يستدعي رقابة فنية وقانونية أشد. وتتوافق هذه النتيجة مع دراسة المركز العربي للأبحاث (لعام 2022)، التي كشفت أن 41% من مؤسسات القطاع العام العربي تستخدم التقييم الفردي لتغطية قرارات جاهزة مسبقًا، ما يؤدي إلى “تسيس الأداء” وإسكات الأصوات الناقدة.
في الواقع العملي، أفرغت "الإجادة الفردية" القيم من معناها الحقيقي. يُكرَّم موظف بارع في صياغة التقارير المنمّقة، ويُتجاهل آخر أنقذ موقفًا حرجًا خلف الكواليس. تُربط قيمة الذات بنتيجة تقييم، فينشأ إحباط جماعي وقلق دائم حول "الاستحقاق". وهنا يتحول الشغف بالعمل إلى سباقٍ للظهور، ويُستبدل التعاون بالتزلف الإداري. وقد بيّنت دراسة معهد غالوب لعام 2020، أن المؤسسات التي تعتمد بشكل مفرط على تقييمات فردية ترتفع فيها معدلات الإرهاق الوظيفي، وينخفض الولاء المؤسسي بنسبة تصل إلى 30%.
الحل لا يكون في إلغاء المنظومة؛ بل في إعادة تعريفها جذريًا لتواكب العدالة والحوكمة الحقيقية، ومن أهم الخطوات المقترحة؛ تحويل محور التقييم من الفرد إلى الفريق، لأن النجاح المؤسسي ثمرة جهد جماعي لا بطولة شخصية.
ولذلك فإنَّ الاعتراف بالجهد غير المرئي، والدعم اللوجستي، والمتابعة اليومية، والعمل في الظل يجب أن يكون له وزن حقيقي في التقييم. قياس النوع لا الكمّ، لا تُقاس الإجادة بعدد النقاط، بل بتأثير العمل في تحسين الخدمة العامة. كما يتعين تمكين وزارة العمل من الإدارة التقنية الكاملة للمنصة، مع رقابة دورية من جهاز الرقابة الإدارية والمالية، وضرورة فصل المكافآت عن المحسوبيات، وبناء نظام حوافز عادل يضمن تكافؤ الفرص لجميع فئات الوظائف، بما فيها المساندة والخدمية.
لقد آن الأوان لمراجعة "الإجادة الفردية" بجرأة، فما صُمّم ليكون أداة تطوير، تحوّل في بعض أوجهه إلى آلة ضغط نفسية وتنظيمية تُفرز القلق وتكرّس الطبقية وتُفرغ العمل من روحه الجماعية. الإجادة الحقيقية لا تُقاس بالنتائج الشكلية ولا بتقارير التزلف؛ بل تُقاس بقدرتنا على بناء بيئة عمل عادلة، شفافة، متعاونة، وإنسانية. إن كنا نسعى إلى تحقيق رؤية "عُمان 2040"، فطريق "الإجادة" يجب أن يبدأ أولًا من العدالة.