حين يدخل الذكاء الاصطناعي باب المدرسة.. من يبقى في الداخل؟!

 

 

 

مؤيد الزعبي

تخيل للحظة، عزيزي القارئ، كيف ستكون مدارسنا وفصولنا الدراسية وحتى معلمينا في المستقبل؟، قد تتخيل طلابًا بلا مدارس، في زمن قد تتحول فيه المدرسة إلى نظام واقع افتراضي يمكنك التجول داخله من خلال نظارتك الذكية، وربما ترى طلابًا يجلسون أمام شاشات تفاعلية تقدم لهم الدروس بأسلوب مبتكر، أو يتلقى الطلاب شروحات من روبوت ذكي ومساعده الآلي اللذين يعرفان بدقة نقاط قوة كل طالب وضعفه، ويقدمان الدرس وفقًا لتلك المعطيات، لكن السؤال الأبرز هنا: أين سيكون دور المعلم؟ وكيف سيحجز مكانه في هذا العالم الجديد؟، وهل سنخسر التجربة الإنسانية التعليمية التي تُشكلنا؟ أم أن قوة التفاعل ودقته ستجعلان من التجربة التعليمية أكثر جودة وكفاءة؟؛ هذا ما أود أن أطرحه عليك، عزيزي القارئ، من خلال هذا المقال.

ها نحن نعيش عصراً لم يعد فيه الذكاء الاصطناعي خيالاً علمياً، بل واقعاً يهز أركان كل مهنة تقريباً، وقد نلاحظ أن هناك شيئاً غريباً يحيرنا فعلاً؛ بينما العالم يتسارع خارج جدران المدارس، ما زلنا داخل تلك الجدران نرى المناهج ذاتها، والأساليب ذاتها، بل والأسئلة والمشاكل والتحديات ذاتها؛ ولماذا تصر مؤسساتنا التعليمية أن تدير ظهرها لهذه الثورة التقنية التي ستجتاحهم يوماً؟ ولماذا تصر على تحضير أبنائنا لعالم لم يعد موجوداً؟ عالم بات يختصر كل ما تعلمناه خلال تاريخنا البشري بأكمله بكبسة زر، عالم سيحتكر كل ما سنتعلمه في المستقبل داخل خوارزمياته وتطبيقاته.

 

إن ما أكتبه اليوم من خلال هذه السطور ليست مجرد مقالة بل هي صرخة استفهام يجب أن نجد لها الإجابات سريعاً، فنحن على أعتاب انقراض دور المعلم التقليدي، فمن جانب ستحل مكانه الروبوتات والبرمجيات ومن جانب آخر سيعيد الذكاء الاصطناعي للمعلم قدسيته ومكانته الحقيقية كمرشد وموجه، بعد أن يحرره من عبء المعلومات والحفظ والشرح والتلقين، ففي المستقبل سيكون أمام المعلمين خيارين لا ثالث لهما إما أن يتطوروا ليواكبوا هذا العالم الجديد، فيتحولوا من ناقلي معرفة إلى صُنّاع وعي، ومن مفسّرين للنصوص إلى ملهِمين للعقول، أو أن يتراجع دورهم شيئًا فشيئًا حتى يصبح وجودهم جزءا من الماضي، فالذكاء الاصطناعي سيفرز من يستحق البقاء في المنظومة التعليمية القادمة، تلك المنظومة التي لن تحتاج إلى من يُحفظ أو يُلقّن، بل إلى من يوجّه ويزرع في الطلاب القدرة على التفكير النقدي والإبداعي، ويعلّمهم كيف يسألون الأسئلة الصحيحة قبل أن يبحثوا عن الإجابات، ولذلك لا تسألني عمّا إذا كان الذكاء الاصطناعي سيحلّ مكان المعلم، بل عن أي نوعٍ من المعلمين سيظل قادرًا على البقاء في زمنٍ يتغير فيه كل شيء بسرعة تفوق الخيال.

 

أما مناهجنا فلماذا هي متخلفة عن ركب الحضارة، بينما تفتح أمامنا التكنولوجيا أبوابًا من المعرفة لم نكن نحلم بها؟، وأنا أعتقد أن المشكلة ليست في نقص الأدوات، بل في طريقة التفكير التي ما زالت تحصر التعليم داخل غلاف كتاب، بدلاً من أن تجعله تجربة حية تتفاعل مع الطالب، لهذا يجب أن تتحول المناهج من مجرد صفحات جامدة إلى منصات رقمية تفاعلية، تتيح للطلاب التعلم عبر المحاكاة والتجريب والاكتشاف الذاتي، لا عبر الحفظ والتلقين، واليوم بين أيدينا أدوات تجعل الطالب يغوص في أعماق المحيط أو يسافر لسطح المريخ بضغطة زر، وأن يفهم المعادلات المعقدة من خلال تجربة افتراضية تشرحها له بوضوح يفوق أي درس تقليدي، لذلك يجب أن تُصمم المناهج لتكون بيئة تحفّز الفضول، وتمنح الطالب حرية التفاعل مع المعرفة بدلاً من استهلاكها بشكل سلبي.

 

تحدثنا عن المدارس والمعلم والمناهج والآن يجب أن نتحدث عن الطالب نفسه ذلك الكائن الذي يُفترض أن يكون محور العملية بأكملها، وما الذي يعنيه أن يكون طالباً في زمن الذكاء الاصطناعي؟ وبصراحة لم يعد الطالب مجرد متلقٍ عاجز ينتظر أن تُلقَنَهُ المعلومة من معلم أو كتاب، فبكل بساطة لديه اليوم الكثير من الأدوات التعليمية ولم تعد المدرسة بالنسبة له هي المصدر الوحيد للمعرفة، بل بات هناك الكثير من المصادر، لكن هذا التحول يحمل معه تحدياً وجودياً حقيقياً، صحيح أنه يمكن للطالب الآن أن يحل مسائل رياضية معقدة بكبسة زر وأن يحصل على إجابات جاهزة لأصعب الأسئلة، فإن السؤال الأهم الذي يجب أن نواجهه معاً هو: هل نحن نربي جيلاً من "المستخدمين" السلبيين للتقنية، جيلاً لا يريد أن يتعلم فلا حاجة للتعلم والمعلومات على أرصفة الطرقات.

من هنا يصبح واجبنا ليس فقط توفير الأدوات للطالب، بل وتوعيته بشكل صريح وواضح بطبيعة المعركة التي يدخلها، يجب أن نجلس مع أبنائنا وطلابنا ونقول لهم: هذه التقنية ليست سحراً، وليست بديلاً عن عقولكم، إنما هي قطار سريع ينقلكم إلى أبواب المعرفة، وأنتم من يجب أن يدخل ليبني ويبدع، ويجب أن نفهمهم أن قيمة الإنسان لم تعد في حفظه للمعلومات، بل في أسئلته الجريئة، وفي نقده البناء، وفي ربطه للأفكار بطرق إبداعية لا تستطيع حتى الخوارزميات توقعها.

المستقبل لا يحتاج إلى طلاب يحفظون الإجابات ولا لمعلمون يلقنون الدروس ولا لمدارس مجهزة بأحدث التقنيات، فالمستقبل ليس لمن يجيد استخدام "شات جي بي تي"، بل لمن يستطيع أن يسأله السؤال الصحيح الذي يقود إلى اكتشاف جديد، نحن بحاجة لجيل يصنع الأسئلة، لهذا على مؤسساتنا التعلمية أن تتأمل مستقبل التعليم، ليس كمتفرجين أو مستخدمين للتقنية بل كفاعلين في صناعة جيل سيختلف عنا في كل شيء حتى في طرق تعلمه وأنماط تفكيره ومسؤوليتهم إعدادهم لهذا الدور ولهذا المكان.

الأكثر قراءة