د. محمد بن خلفان العاصمي
لا يمر عام دراسي الّا ومشهد نسيان طالب أو طالبة في إحدى الحافلات المدرسية يتكرر، مُحدثًا مأساةً تعيد نفسها وتنكأ جراح من نُكِبوا بفقد طفل عزيز في حادثة مشابهة، وقد أصبحت هذه القضية كابوسًا وهاجسًا تنقبض معه قلوب الآباء والأمهات وهم يجهزون أبناءهم للذهاب إلى المدرسة أو عندما ينتظرون عودتهم منها، مشاعر تتكرر كل يوم وتعيشها جميع الأسر طوال عام دراسي.
هذه المشكلة استعصت على الحلول جميعها، ورغم المحاولات التي بذلت لتجنب تكرار هذه المعاناة والمأساة إلا أنها مازالت تحدث، ولم تفلح جميع الإجراءات في منعها، ولأنها كارثة فمجرد حدوثها لمرة واحدة كفيل بوصف الإجراءات بالفشل، فحياة إنسان واحد لها قيمة كبيرة كيف وإن كان طفلًا يتعرض لمثل هذا الموقف الصعب ويفقد حياته بطريقة بها مُعاناة شديدة جدًا بلا حول منه ولا قوة، هنا لابد أن نعتبرها كارثة وفشلاً بكل معنى الكلمة.
ورغم التحذيرات والإجراءات والاشتراطات التي اتخذت لمنع حدوث هذه الكارثة إلا أن هناك من لم يستوعب أن الإهمال واللامبالاة والاتكالية وسوء التصرف وعدم الانتباه قد تورثه ندمًا طوال حياته، وأنها سوف تخلق معاناة نفسية كبيرة لأسرة كانت فرحة بحياة طفل وسعيدة ببلوغه سن المدرسة وذهابه إليها لتتحول حياتهم إلى جحيم من الألم والحزن والخوف والقلق، وإن عدم الاهتمام بكل ذلك أفضى إلى هذه النهاية المؤلمة والحزينة وإلى حدوث الكارثة الإنسانية التي نعيشها كل عام.
فشل الإنسان في أداء مهمة ما أمر وارد وهذا أمر طبيعي في حياتنا اليومية ولكن هناك أعمال لا يسمح بالفشل في أدائها لأن عواقب هذا الفشل وخيمة، والأغرب في موضوع الحافلات أن الأمر لا يتطلب كثيرًا من الجهد لتفادي حدوثه، فالتقنيات الحديثة والتكنولوجيا باتت متاحة بشكل كبير للمساعدة في ذلك، كما أن تحمل المسؤولية وأخذ العمل على محمل الجد والصبر كفيلان بأن يتقن الإنسان عمله وأن يؤديه بشكل أفضل ويتجنب الوقوع فيما لا يحمد عقباه.
لكن حوادث الحافلات هي نتيجة لعمل لم يتم تنفيذه بشكل صحيح؛ فهناك من لم يضع الاحتمالات التي يمكن أن تحدث في الحسبان، وبكل تأكيد لا توجد نية سيئة وراء هذا الأمر، غير أنه الإهمال وسوء التقدير وعدم الانتباه والاتكالية، وهي سلوكيات مقيتة في بيئة العمل، كل ذلك يتسبب في تكرار هذه الحوادث، والأمر ليس مرتبطًا بسائق الحافلة فقط؛ فالمسؤولية هنا جماعية وتتعلق بسلسلة طويلة من المستويات الوظيفية، وربما تكون منظومة نقل الطلبة وبرتوكولها أحد الأسباب الأساسية في تكرار هذه الحوادث.
لن تختفي هذه الحوادث ما لم تكن هناك خطة واضحة للتعامل مع آلية نقل الطلبة، وإذا لم يتم توظيف التقنية بشكل صحيح وفرض رقابة ومتابعة دورية للسائقين فلن تختفي هذه المشكلة، وإذا لم يتم الاستعانة بمشرفين متفرغين للعمل في الحافلات مهمتهم مساعدة الطلبة والسائقين والإشراف على هذه الخدمة بشكل كامل، فلن نتجنب تكرار هذه الحوادث، والأمر لا يتطلب سوى قرار إلزامي بوجود مشرف حافلة خاصة لمدارس الحلقة الأولى ورياض الأطفال التي تتكرر فيها هذه الحوادث.
هذا التوجه سوف يساعد على الحد من هذه الحوادث، ويوجد من يتحمل المسؤولية بشكل مباشر بدل التنصل الذي نشاهده في كل مرة تحدث فيها حالة وفاة طفل داخل الحافلة، كما إنها سوف تخلق فرصاً وظيفية مهمة في منظومة التعليم، وهذا أمر لا يكلف الكثير في سبيل إنقاذ حياة طفل ومنع معاناة أسرة بأكملها، ومن المجحف في حق بلد ينعم بالخير ويحظى فيه التعليم باهتمام بالغ من القيادة الرشيدة أن نعاني من مثل هذه المشاكل ونحن نملك كل الإمكانيات لتجنبها إذا ما وضعناها بعين الاعتبار.
إنَّ تكرار هذه الحوادث منذ سنوات عديدة أمر غير مقبول - مع الإيمان التام بالقضاء والقدر- وأنا هنا لست بصدد البحث عن المتسبب وتحميل المسؤولية لأحد بقدر ما أنني أرغب في وقف هذا الأمر مثل أي فرد سوي في المجتمع لا يمكنه أن يتقبل نسيان طفل في حافلة مغلقة ليلقى حتفه بطريقة شنيعة ومعاناة تقشعر لها الأبدان؛ فهؤلاء الأطفال أمانة في أعناقنا ومسؤولية سوف يحاسبنا الله تعالى عليها حتى وأن نفذنا من عقاب القوانين الوضعية بطريقة ما، فلن نفلت من قانون الله تعالى العادل.
علينا أن نتقن أعمالنا وعلينا أن نتحمل مسؤولياتنا، فالطفل عرضة للنوم في أي وقت وأي مكان، وعرضة لتصرفاته غير المحسوبة، وعرضة لسلوكيات خاطئة تمارس من الأسرة والمدرسة والمجتمع، وعلينا أن ندرك أن العمل أمانة قبل أن يكون واجبا، وضمير قبل أن يكون تكليفاً، ونسأل الله تعالى أن يمكننا من أداء أعمالنا بما يرضيه وأن يحفظ أبناءنا من كل مكروهٍ.