صاحب السمو السيد/ نمير بن سالم آل سعيد
يكتسب المرء في مطلع الشباب رغبة عارمة في اكتشاف قوته الكامنة وقدراته الخفية التي لم يختبرها بعد؛ مما يدفعه أحيانًا للمُغامرة الجريئة غير المحسوبة العواقب، ويكون في هذه المرحلة العمرية قد بلغ مدى من النمو والتكوين الذي يظن فيه أنَّه وصل إلى ذروة نضجه وأوج قوته بينما هو ليس إلّا في بدايات الطريق لتعزيز مقدراته.
وحين تنادي التجارب الجريئة لخوضها؛ فالتمهل في الاستجابة لها واجب والتمعن فيها وموازنتها ضرورة قبل الإقدام عليها إذا كان ليس من ذلك بُد. والأفضل أن يَعبُر المرء هذه المرحلة العمرية بهدوء وأمان من خلال النأي بالنفس عن المخاطر تفاديًا لما قد ينتُج عن ذلك من ضرر بالغ أو خسائر ذاتية فادحة غير متوقعة؛ فالشعور بالقوة زائفٌ، والقدرة على تخطي الصعاب خادعة، والوعي مُضلِّل في هذا العمر الذي تغشاه الضبابية واللا يقين، والذي هو في أمسِّ الحاجة للتوجيه والإرشاد.
وخلال انتقالي للولايات المتحدة الأمريكية للدراسة الجامعية في بدايات العشرينات من عمري، أقدمتُ على بعض المغامرات الخطرة، وما كنت لأقوم بها لو رجع بي الزمن إلى ذلك العمر المبكر. كنت أؤمن حينها بأنَّ الفرد لا بُد أن يدفع بنفسه إلى حيث يهاب ويخشى لاكتشاف ذاته، وأن يوغل إلى مدى لم يعهده من قبل من أجل أن يخرج من هذه التجارب أقوى وأفضل في مواجهة الصعاب.
الشدائد تصنع الرجال، والنفس لا تعرف شجاعتها إذا لم تجرُؤ على امتحان قدرتها، ومن لا يغامر سيجهل قوته وإمكانياته الشخصية. وكنتُ أعتبرُ نفسي شجاعًا وأشعر بذلك في ذاتي، ولكن كانت تنقصني التجارب العملية الثرية لتمنحني تلك القناعة التامة لاستحقاق هذا الشعور النبيل؛ فأصبحتُ أتشوقُ للدفع بنفسي إلى حدود لم يتم اكتشافها، والسير إلى أبعاد جسورة لم يتم سبرها بعد؛ فالتحقت بمركز القفز بالمظلات وكان التدريب نظرياً لمدة ساعتين، ثم وقَّعت بموجب طلبهم على عدم تحمل المركز أي مسؤولية في حالة الوفاة أو وقوع أي إصابات أثناء أداء النشاط. بعد ذلك، اصطحبوني إلى موقع طائرة "سيسنا 182" وحلقنا بالطائرة على ارتفاع 13000 قدم. ثم- كما ينبغي- قفزتُ من الطائرة ولكن للأسف اشتبكت حبال المظلة ببعضها البعض ولم يفتح البراشوت إلّا جزئيًا بما لا يكفي لحمل ثقل وزني.
فوجدتُني أسقط بسرعة مذهلة لم أر لها مثيلا، متسارعة الأرض نحوي، ومع الارتباك والصدمة وارتفاع هرمون الأدرينالين، حاولت فك الحبال وتفريقها من تشابكها من أجل أن تفتح المظلة باتساعها، ولكن دون جدوى، فظننتُ أن النهاية قد اقتربت ومرَّ شريط عمري في لحظات أمامي ثم سرى إلى إدراكي بأن هناك مظلة احتياطية مُلحقة فسحبتُ مقبضها فورًا بقوة، فانفصل البراشوت المتشابكة حباله وخرج البراشوت الاحتياطي كاملًا غير متشابكٍ لأنزل بلطف الله ورعايته سالمًا.
وعندما أتوا بي إلى مقر مركز المظلات بعد الهبوط علا تصفيق الموجودين وأخبروني بأنني نجوت بأعجوبة من هذه الحادثة التي رأوني فيها أسقط من السماء.
تأخرت كثيرًا في فتح البراشوت الاحتياطي متجاوزًا وقت الأمان بقليل، لم أكن أعرف بأنَّ هناك وقت أمان أو غير أمان لذلك. وحتى لو كنت أعرف فمن أين لدي الوقت آنذاك لمراقبة الوقت وأنا أسقط "كجلمود صخر حطه السيل من علٍ".
وفي تجربة جريئة أخرى، قمت بتأجير شاحنة كبيرة مغلقة (u-haul) بطول 11 مترًا تقريبًا وقمت بقيادتها من فلوريدا (أقصى جنوب شرق أمريكا)- مقر الدراسة الجامعية- إلى واشنطن العاصمة (شمال شرق)، واستغرقت الرحلة ما يقارب 15 ساعة؛ وذلك لغرض إحضار أثاث شقة لثلاثة غرف نوم ومجلس وصالة طعام، كان قد أعطاني إياها أخي ليعود إلى البلاد بعد دورة تدريبية لعام قضاها هناك في واشنطن العاصمة.
وكان يريد أن يرسل هذه الأغراض لي عن طريق نقل الشحن البري أو البحري، ولكنه وجدني أمام بنايته بهذه الشاحنة الضخمة. ولولا ستر الله لتعرضت لحوادث خطيرة في الطريق ذهابًا وإيابًا كادت أن تُكلِّفني حياتي.
وفي حادثة متهورة أخرى، دخلت في عراك بالأيدي أمام منزلي في فلوريدا مع أحد الجيران نتيجة لسوء تصرفه وتحديه لي، فضربته لكمة "بوكس" على وجهه أسقطته أرضًا؛ فنهض بعد لحظات من سقطته وذهب إلى منزله هادئًا غير مُلتفتٍ، وبعد ساعتين وجدته يقف في وسط منزلي مُقتحمًا المكان وبيده سكين وفي حالة سكر يتطاير من عينيه الشرر، ولكنني استطعت إخراجه من منزلي دون أن تسفر هذه الحادثة -ولله الحمد- عمَّا لا يُحمد عقباه.
هكذا تجب الاستفادة من التجارب والخبرات حتى لا يقع أبناؤنا في الأخطاء المتهورة؛ سواءً المراهقين أو الشباب.
ولا أنصح أي أحد في هذه المرحلة العمرية المبكرة بالمغامرات الخطرة ولينتظر إلى الثلاثينات من العمر، فإذا بلغها صار أكثر خبرة ودراية، فلا يُقدم على مثل هذه المجازفات المتهورة، ليُواصل حياته أكثر وعيًا وحكمةً وسلامًا.