سالم البادي (أبو معن)
أعلم يقينًا أن قلمي مهما أجاد وأسهب في كتاباته فلن يصل مستواه إلى مستوى بندقية مجاهد أو مقاوم غزي، وأن مداد قلمي مهما أبدع في بلاغته فسيبدو ركيكا في حضرة الدم الفلسطيني..
ولكنها الأحداث والشواهد اليومية وصور المجازر وأهوال ما يحدث في غزة هي من تجعل قلمي يثور في صدري، ويخط حبره على ورقي.. الذي طالما صاغ الجمل والمقالات، وقد قال بعضهم: إنَّ كل كلامنا هو تعويض صفيق لغياب البندقية.
يا غزة الروح يا عنوان عزتنا وكرامتنا
لولا صمودك وثباتك وبطولاتك ما اعتز إسلام..
يا قلعة القدس والأحرار أجمعهم
بغزة دون كل الأرض قد هاموا..
ليت الذي فيك فينا يا مدينتنا
وتسلمين.. فما للجرح إيلام
ليت الحدود أزيحت من مناطقنا
لما تأخر منَّا عنك مقدام
ما غاب شعب العروبة عنك
وإن غابت جيوش
يحرسك الله بعينه التي لا تنام.
(الشاعر السوري فخري البارودي)
بطبيعة الحال العاطفة الإنسانية تغلب على البشر، وربّما القهر والشعور والإحساس المستمر فينا كبشر بعدم انتهاء معاناة أهل غزة وتوقف آلة الحرب الصهيوأمريكية عن القتل والإجرام والخراب والدمار والحرق والتعذيب والمجازر الإنسانية المستمرة والإبادة الجماعية والتجويع وغيرها من الجرائم التي جعلت العالم الحر يخرج بالملايين للتعبير عن تضامنه مع أهل غزة ومساندتهم لإيقاف تلك المجازر، وهذا الشعور جعلني طيلة عامين وأنا أحاول أن أفهم ما يحدث حولنا وفي واقعنا المؤلم المتسارع في التغيير والمتقلب في المواقف التي أصبحت غير ثابتة البتة.
لكنّي في نهاية الأمر لا أريد أن أكون متشائماً، فديننا الحنيف أمرنا بأن نكون متفائلين متفاعلين، قال تعالى "وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ ۖ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ" (يوسف: 87).
وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يأمر أصحابه عند إرسالهم بالبشارة والتيسير بدلًا من التنفير والتعسير، وهو ما يدل على بث روح التفاؤل "بَشِّرُوا وَلَا تُنَفِّرُوا، وَيَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا".
يا أبطال ومجاهدي غزة.. إنكم تخوضون معركة التاريخ معركة التحرير معركة الطوفان الأكبر التي ضحت نفوسكم من أجلها.
فهنيئاً لكم هذا الفوز الذي ارتضاه لكم ربكم الأعلى.
لقد أوجعتم عدوكم وأذقتموه مرارة ما بعدها مرارة، لقد وجدتم مكان ألمه فآلمتموه حتى بات يصرخ صراخاً كالطفل الرضيع، ودققتُم في نعشه مسمارا لن يستطيع نزعه أبدا، وأحييتم في الأمة كلها روحا كانت قد فقدتها.
ثمة مشاعر وأحاسيس عزة وكرامة زرعتموها فينا كشعوب حرة..
أنتم في ميدان الثبات والصمود والكفاح والجهاد، اختاركم ربكم من بين عباده المؤمنين لتكونوا البذرة التي ستتفجر منها نهضة الأمة، وعودة أمجاد الإسلام.
إن الله تعالى حين يختار عباده الصالحين ليكونوا قادة في ميادين المعارك ويدافعون عن أرضهم وعرضهم ودمائهم فيختار جنوده من هم أنقاهم وأصفاهم وأطهرهم وأقربهم إليه، وإننا والله لنغبطكم على هذا الاصطفاء والاختيار، وإن الله تعالى تأذَّن أن يبعث على أحفاد القردة والخنازير عبادا له يسومونهم سوء العذاب، فكنتم عباده الذين اختارهم؛ وإن النبي صلى الله عليه وسلم أخبرنا أن خير الرباط رباط عسقلان، وقد رأينا الكتائب تجتاحها.
يكفيكم والله شرفاً أن تكونوا تفسير الآيات في المصحف، وموعود النبي صلى الله عليه وسلم في كتب الحديث، فنتقوّى ونزداد إيماناً على إيماننا بأن هذا الدين حقٌّ، وأنه لا غالب إلا الله، وأنتم أهله وصفوته، وإنكم لغالبون بإذنه تعالى {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}(يوسف: 21).
يا أهل غزة..
نعلم أنكم بشر مثلنا، ولكنكم تختلفون عنَّا في صفات وسمات سامية أرادها الله لكم، ومنها الصبر والتحمل على أهوال الموت والدمار في الحرب وأن القتال مؤلم، والقصف مفزع، والتهجير مضنٍ، وفقد الأحبة أكثر ألما.
ولكن الله لا يضع ثمارا على غصن لا يستطيع حملها، وإنه سبحانه يكلِف بالممكن لا بالمستحيل، وإن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون.. وقد مضت سُنَّة الله في الصراع بين الحقِ والباطل منذ خلق الله البشرية، أنّه لا تمكين بلا امتحان، ولا فوز بلا حرب ولا أمنَ إلا ويسبقه فزع.
في غزوة الخندق بلغت قلوب الصحابة الحناجر؛ فالأحزاب من الخارج، واليهود والمنافقون من الداخل، وقد راهنوا جميعا أنها نهاية المسلمين قربت، وبعد بضع سنوات من غزوة الخندق كان الصحابة رضوان الله عليهم يدكُّون إمبراطوريتي الروم والفرس.
ويا أهل غزة إنكم اليوم تُعبِّدون الطريق إلى المسجد الأقصى بثباتكم وصمودكم وقتالكم وصبركم، فوالله ما هي إلا مدة زمنية إلا ونحن نصلي في المسجد الأقصى محرَّرا بفضل الله ثم بفضل جهادكم وثباتكم.
يا أسياد العالم الحر.. لستم وحدكم، وإن رأيتم التقصير والتخاذل والتقاعس من البعض.. فأولئك لم يكونوا محظوظين ليكونوا ممن اختارهم ربنا تعالى لنصرتكم. ولكن ثقوا بأنَّ وراءكم أُمّة تغلي وستفيق يوما ما، فإن خذلتكم الجيوش فقد أكبرتكم الشعوب، وإن لم تساندكم الطائرات والدبابات والمدرعات فقد ظللتكم الدّعوات.
ولا تنسوا أنكم أنتم الظاهرون على الحقِّ في بيت المقدس وأكنافه.
وأنتم الموعودون بالخذلان من قبل أن تُولدوا، ولكنكم المبشَرون بالثبات حتى يأتيكم أمر الله وأنتم كذلك.
سأظل أكتب عنك يا غزة لعدة أسباب منها أن غزة أحيت فينا الحرية الحقيقية للإنسان على هذا الكوكب الظالم المجرم. وأن غزة علمتنا معنى الصمود والرباط والثبات والتمسك بالأرض وحب الوطن، الذين عاهدوا الله على دحرِ المحتل، فقد قاوموا ورابطوا واستشهدوا في سبيل الله والوطن والدفاع عن عرضهم ودمائهم.
لقد علمتني غزة أنَّ القهر والذل والهوان وكافة أنواع القمع الاستبدادي ما هي إلا تحدٍ صغير لصمود وترابط أهلها، فما زال شبابها يؤمنون بغدٍ أفضل وما زالت نسائها تنجبُ الكثيرَ من الأبطال، لم ولن ينسى هذا الشعبُ حقه في العودة يوماً ما، كنتِ وما زلتِ مضربَ الأمثالِ والعِبر يا غزة.
أكتب عن غزة لأنها أذلت أكبر جيش في منطقتنا العربية وقالوا عنه إنه لا يهزم. ولديه قبة حديدية لا أحد يستطيع اختراقها، فأصبح جيشا من ورق، يقتل ويؤسر. وأصبحت قبتها متصدعة أمام صواريخ المقاومة.
كتائب المقاومة الفلسطينية أعادتْ إلينا أمجاد الأمة الإسلامية، ذكرتنا ببدر وأحد ومؤتة والقادسية واليرموك وحطين وعين جالوت.
أطفالكِ يا غزة ليسوا كالأطفال؛ بل ولدوا ليكونوا أبطالا في طفولتهم مغاوير في شبابهم.
نساؤكِ يا غزة لسن كنساء العالم، لقد أَعَدْنَ إلينا بطولات أم عمارة، وصولاتِ رُفيدة، وتضحيات الخنساء تدفنُ أولادها وتسأل الله أن يتقبل منها قربانها.
فهنيئًا لك يا خنساء فلسطين هذا الوسام.
عجائز غزة شرحنَ لنا كُتب أصول العقيدة الإسلامية في مواجهة أقسى المعضلات والمصائب والتحمل على أهوال الموت، ما أجمل حين تتحول العقيدة من حبرٍ على الورق إلى دمٍ يجري في العروق.
شيوخ غزة ضربوا أروع معاني البطولات والتحمل والصبر، يدفنون أولادهم وأحفادهم فلا تكسرهم الجنائز، ولا تثنيهم الأشلاء، لسان حالهم قبل مقالهم: اللهمَّ خُذْ من دمنا حتى ترضى.
أطباء وممرضو ومسعفو وإطفائيو غزة كانت تصلهم جثث أولادهم وأقربائهم وأحبابهم فلا تلهيهم عن جراح الآخرين.
أخيرا.. غزة جمعت شمل العالم ووحدة شعوبه من أقصاه إلى أقصاه، وأثبتت للعالم أنها على حق وأن العدو الصهيوني المحتل لا بد أن يرحل إلى مزبلة التاريخ بلا عودة.
جارٍ الكتابة لأجلك يا غزة حتى إشعار آخر.