سالم البادي (أبو معن)
في خضم صراع طويل الأمد من أجل الحرية والعدالة، تظهر أسماء مجيدة كمنارات للأمل والشجاعة، ومن بين هؤلاء الأبطال يبرز اسم عبد القادر الحسيني، رمز النضال الفلسطيني.
لم يكن الحسيني مجرد مقاتل؛ بل كان قائدًا بالفطرة، ومخططًا ماهرًا، ورجل رؤية، كرّس حياته لقضية شعبه. هذه المقالة تهدف إلى التعمق في حياة وإرث عبد القادر الحسيني، واستكشاف دوره الحاسم في تشكيل مسار التاريخ الفلسطيني، وإلهام الأجيال القادمة.
بعد الحرب العالمية الأولى، انتقلت فلسطين من سيطرة الدولة العثمانية إلى الانتداب البريطاني في عام 1920. وخلال هذه الفترة، بدأت الهجرة اليهودية إلى فلسطين تتزايد، مدفوعة بوعد بلفور عام 1917 الذي دعم إقامة "وطن قومي للشعب اليهودي" في فلسطين.
ومع مرور الوقت، ازدادت التوترات بين العرب الفلسطينيين واليهود، بسبب الصراع على الأرض والموارد، بالإضافة إلى الاختلافات الثقافية والدينية.
اندلعت أعمال عنف واضطرابات متكررة، مثل ثورة البراق عام 1929 والثورة العربية بين عامي 1936 و1939. وفي عام 1947، قررت الأمم المتحدة تقسيم فلسطين إلى دولتين، عربية ويهودية، وتبقى القدس تحت السيطرة الدولية.
رفض العرب الفلسطينيون خطة التقسيم، بينما قبلتها القيادة اليهودية، وأدى ذلك إلى اندلاع حرب عام 1948، والتي انتهت بهزيمة العرب وتأسيس دولة الكيان الصهيوني المحتل؛ مما أدى إلى تهجير مئات الآلاف من الفلسطينيين من ديارهم، وهو ما يعرف بـ"النكبة".
برزت القيادة الفلسطينية في أوائل القرن العشرين مع تصاعد الوعي القومي. ولعبت شخصيات مثل الحاج أمين الحسيني دورًا بارزًا في هذه الفترة؛ حيث قادوا الحركات السياسية والدينية.
في فترة الانتداب البريطاني، ظهرت قيادات أخرى مثل عزالدين القسام (محمد عزالدين بن عبدالقادر القسام 1882- 1935) الذي قاد المقاومة المسلحة ضد الاستعمار البريطاني، والذي سنفرد له مقالًا آخر.
بعد نكبة 1948، استمرت القيادة الفلسطينية في التطور، مع ظهور حركات المقاومة الفلسطينية، برز عبدالقادر الحسيني كشخصية قيادية مهمة في هذه الفترة؛ حيث قاد المقاومة في القدس.
وتطورت القيادة الفلسطينية عبر مراحل مختلفة، من القيادات الدينية والسياسية إلى قادة المقاومة المسلحة، مرورًا بشخصيات مثل عبدالقادر الحسيني، الذين تركوا بصماتهم في تاريخ القضية الفلسطينية.
عبد القادر الحسيني: فارس فلسطين
عبدالقادر الحسيني، اسم يتردد صداه في أروقة التاريخ الفلسطيني كرمز للبطولة والتضحية. وُلد الحسيني في القدس عام 1907، ونشأ في كنف عائلة عريقة ذات نفوذ سياسي واجتماعي. تلقى تعليمه في مدارس القدس، ثم التحق بالجامعة الأمريكية بالقاهرة، حيث درس الكيمياء. لم يكن عبدالقادر الحسيني مجرد طالب علم؛ بل كان وطنيًا من الطراز الرفيع، آمن بحق شعبه في تقرير المصير. وفي فترة الانتداب البريطاني على فلسطين، انخرط الحسيني في العمل السياسي والنضال ضد الاستعمار. وأسس "منظمة الجهاد المقدس" عام 1930، وهي منظمة عسكرية هدفت إلى مقاومة الوجود البريطاني والصهيوني في فلسطين.
في عام 1948، ومع اندلاع الحرب العربية الصهيونية، برز الحسيني كقائد ميداني بارع. وقاد المجاهدين الفلسطينيين في معارك ضارية للدفاع عن القدس، وضرب أروع الأمثلة في الشجاعة والإقدام.
وتمكنت "عصابات الهاجانا اليهودية الصهيونية" في 3/4/1948 من إسقاط بلدة القسطل، وكانت القرية ذات أهمية استراتيجية بسبب موقعها على طريق القدس الرئيسي.
حشد الفلسطينيون قرابة 300 فدائي من مختلف القرى والمدن العربية وذلك بقيادة عبد القادر الحسيني وابتدأ الهجوم العربي في 4/4/1948، ولم يتمكن اليهود من السيطرة الكاملة على القسطل، واستمرت المعركة على مدى ثلاثة أيام، إلاّ أن ذخيرة المقاتلين العرب نفذت، بينما عصابات "الهاجانا الصهيونية" كانت تتلقى المؤن والذخائر بواسطة الطائرات.
ونفاد السلاح من يد العرب الصامدين المرابطين في "القسطل" دفع قائد كتيبة "الجهاد المقدس" عبدالقادر الحسيني للذهاب فورًا إلى دمشق؛ حيث مقر اللجنة العسكرية لجامعة الدول العربية وطلب التزوُّد بالسلاح والذخائر بعد أن وضعهم بصورة تفاصيل ومخاطر الوضع في القدس.
ولكن للأسف لم يتلق ردًا إيجابيًا ولم تستجب اللجنة العسكرية العربية لطلب عبدالقادر الحسيني، وأثناء اللقاء جاءت الأنباء التي تتحدث عن سقوط "القسطل"، وأبدى عبدالقادر الحسيني القدرة على استعادة القسطل فيما لو توفَّرت لديه الذخائر والأسلحة، إلاّ أن الرد من اللجنة العسكرية كان مدويًا وصدمة كبيرة للقائد عبدالقادر، وما كان منه إلا أن يرد على اللجنة العسكرية بغضب: وخاطبهم "أنتم مجرمون، سيسجِّل التاريخ خيانتكم وتخاذلكم وتقاعسكم وأنكم أضعتم فلسطين، سأستعيد القسطل، وسأموت أنا وجميع أخواني المجاهدين"، ثم التفت إلى صديقه قاسم الريماوي الذي كان يرافقه وقال له: "هيَّا نرجع إلى فلسطين كي نموت فيها الميتة التي وضعناها نصب أعيننا، هيا نستشهد أو ننتصر على الأعداء".
عاد عبدالقادر الحسيني ومعه رفاقه إلى فلسطين، وقبل منتصف ليلة 7/4/1948 بدأ الهجوم الفلسطيني على المواقع اليهودية، واستمر القتال شرسًا، حتى كادت الذخائر أن تنفد مما اضطر المقاومين إلى التراجع، إلاَّ أنَّ القائد عبدالقادر الحسيني تقدم مع بعض رفاقه واشتبكوا مع الصهاينة فأصيب ثلاثة منهم وبقي عبدالقادر ومعه مقاتل واحد فقط.
وتمكَّن الصهاينة من الإحاطة بعبد القادر الحسيني ووصل النبأ إلى الفلسطينيين خارج "القسطل"، فتجَّمعوا من كل حدب وصوب بحماسة وببسالة شديدة، وجاءت النجدة من "الجهاد المقدس"، ومن "حرَّاس الحرم الشريف"، ومن "شباب القدس"، ومن أهل الخليل، ومن قرى الواديه، ومن جيش الإنقاذ.
ولكن للأسف كان الأعداء الصهاينة أكثر عددًا وعتادًا، وبفضل الله تمكن الفلسطينيون الذين احتشدوا من مختلف المناطق من استرداد "القسطل" وظلوا فيها حوالي 6 ساعات، إلاَّ أن الصهاينة المحتلون جاءتهم النجدات الكبيرة بعد أن خسروا 350 قتيلًا صهيونيًا.
وقد صُدم الفلسطينيون الذين سيطروا على القدس صباح 8/4/1948 عندما وجدوا الشهيد عبدالقادر الحسيني ملقى عند مدخل القرية.
لقد قام ضابط بوسني مسلم كان مع المهاجمين هو "شوقي بك" ومعه مصفحته بحمل جثة الشهيد عبدالقادر في مصفحته، وتوجَّه بها إلى القدس، وعندما انتشر الخبر غادر الكثيرون إلى الحرم الشريف للمشاركة في التشييع، وبقي أربعون مناضلًا من المقدسيين.
استشهد عبدالقادر موسى الحسيني تاركًا زوجة مناضلة تحَّملت مسؤولية تربية أبنائها الثلاثة موسى وفيصل وغازي إضافة إلى ابنته كريمة.
وعبدالقادر هو ابن القائد الوطني المناضل موسى كاظم الحسيني، ويبقى عبدالقادر الحسيني ووالده موسى الحسيني وأبناؤه وخاصة الشهيد فيصل الحسيني عناوين العمل الوطني والمقاومة، والصلابة، والوفاء.
رحم الله عبدالقادر الحسيني، الذي بقي اسمه محفورًا في ذاكرة الشعب الفلسطيني كأحد أبرز قادته وأبطاله.
وبعض أسباب هزيمة القوات العربية في معركة القسطل، واستشهاد عبدالقادر الحسيني نستخلصها كالآتي:
أولا: تأخير وصول السلاح والعتاد، ونقص الإمدادات؛ حيث عانت القوات العربية من نقص حاد في الأسلحة والذخائر والمعدات، وهذا النقص أعاق قدرتهم على القتال بفعالية ضد القوات المحتلة التي كانت مدعومة بشكل أفضل.
وصعوبة الحصول على الأسلحة؛ إذ واجهت القوات العربية صعوبات في الحصول على الأسلحة من الخارج بسبب الحظر المفروض على توريد الأسلحة إلى المنطقة وصعوبة التنسيق بين الفصائل المختلفة.
ثانيا: الخيانة والتعاون مع العدو: ظهرت اتهامات لبعض الأطراف العربية بالتعاون مع القوات الإسرائيلية، سواء من خلال تسريب المعلومات أو عرقلة العمليات العسكرية.
وضعف التنسيق والوحدة؛ حيث كان هناك ضعف في التنسيق والوحدة بين الفصائل العربية المختلفة، مما أثر على قدرتهم على تنفيذ العمليات العسكرية بشكل فعال.
ثالثا: التفوق العسكري للعدو الصهيوني. كانت قوات العدو مدربة بشكل أفضل، وأكثر تسليحًا، ولديها قيادة أفضل، مما منحها ميزة كبيرة في المعركة.
رابعا: الموقع الاستراتيجي؛ إذ كان للقوات الصهيو-بريطانية ميزة في السيطرة على المواقع الاستراتيجية، مما سمح لهم بالتحكم في خطوط الإمداد والاتصالات.
خامسا: وفاة عبدالقادر الحسيني؛ إذ كان لاستشهاد عبدالقادر الحسيني تأثير كبير على الروح المعنوية للقوات العربية، مما أدى إلى انهيار صفوفهم في النهاية.
هذه العوامل مجتمعة ساهمت في هزيمة القوات العربية في معركة القسطل، واستشهاد عبدالقادر الحسيني.
أما الاثر الذي تركه القائد عبدالقادر الحسيني في نفوس وأذهان الاجيال الفلسطينية، فكما يلي:
أولًا: يعتبره الفلسطينيون رمزًا للقيادة والشجاعة؛ إذ كان قائدًا عسكريًا بارعًا، تمكن من توحيد الفصائل الفلسطينية في مواجهة العدو. وهذا الدور القيادي يمثل مصدر فخر واعتزاز للفلسطينيين، خاصة في أوقات الشدة.
ثانيًا، يجسد الحسيني قيم التضحية والفداء. فقد ضحى بحياته في سبيل قضيته، وهذا النموذج يلهم الفلسطينيين على التمسك بأرضهم وحقوقهم، والاستعداد لبذل الغالي والنفيس من أجلها.
ثالثًا، يمثل إرثه حافزًا للصمود والمقاومة. فمن خلال تذكره، يتذكر الفلسطينيون تاريخهم النضالي، ويستمدون منه القوة لمواصلة مسيرة النضال، حتى تحقيق أهدافهم.
رابعًا، يساهم في تعزيز الهوية الوطنية الفلسطينية. فالحسيني، كشخصية تاريخية بارزة، يمثل جزءًا هامًا من التراث الفلسطيني، ويساهم في توحيد الفلسطينيين حول قيم مشتركة، وتعزيز انتمائهم إلى وطنهم والتمسك بأرضهم وحقوقهم.
باختصار.. يمثل عبدالقادر الحسيني رمزًا حيًا في الوجدان الفلسطيني، وخاصة "قطاع غزة" يذكرهم بتاريخهم النضالي، ويلهمهم بالأمل والصمود والثبات في مواجهة التحديات.
