مؤيد الزعبي
عندما نتحدث عن الذكاء الاصطناعي اللغة الكبيرة، والمركبات ذاتية القيادة، والحوسبة الفائقة يجب أن لا ننسى أن هناك معركة شرسة قد تكون الأكثر تحديدًا لمصير العالم في القرن الحادي والعشرين، معركة بين عمالقة التكنولوجيا كل منهم يحمل رؤية مختلفة جذريًا لمستقبل هذه التكنولوجيا، فمن جانب تتسابق الشركات الأمريكية مثل "أوبن إيه آي" و"جوجل" للحفاظ على تفوقها التقني، وعلى جانب آخر تظهر شركات صينية مثل "ديب سيك" لتقلب الموازين بنماذج مفتوحة المصدر تتحدى احتكار القوى التقليدية، ولهذا يجب أن تعلم عزيزي القارئ بأن هذا ليس مجرد سباق تقني؛ بل هو صراع على القيم والنفوذ والقدرة على تشكيل مستقبل البشرية.
التنافس الأمريكي والصيني في مجال تقنيات الذكاء الاصطناعي واحد من أهم التنافسات في عصرنا الحالي، وهنا يجب أن نميز بين الاستراتيجية المتبعة لكلا الدولتين، فالولايات المتحدة تتبع استراتيجية تركز على التفوق التكنولوجي والسيطرة على موارد الحوسبة وذلك من خلال فرض ضوابط تصدير صارمة على الرقائق المتقدمة، في محاولة للاحتفاظ بميزتها التنافسية، أما الصين فقد تبنت استراتيجية مختلفة تركز على الانتشار العالمي والانفتاح، حيث أطلقت شركة "ديب سيك" نماذج ذكاء اصطناعي تضاهي قدرات "أوبن إيه آي" وجعلتها مفتوحة المصدر ومتاحة للجميع دون قيود، وقد كان الخبراء يتوقعون أن الصين ستصل لتكنولوجيا ذكاء اصطناعي متطورة بحلول عام 2030، ولكن الصين وصلت لمستوى شبه تكافؤ في 2024، وهو ما عجل من بدء المعركة والتنافس بين الدولتين وشركاتهما.
إذا تحدثنا عن النقاط الإيجابية في الأمر؛ فالتنافس يسرع وتيرة الابتكار ويجعل الذكاء الاصطناعي أكثر كفاءة وتوفيرًا، وبالأرقام فقد انخفضت تكلفة الاستدلال لنظام يعمل بمستوى GPT-3.5 بأكثر من 280 ضعفًا بين نوفمبر 2022 وأكتوبر 2024، كما انخفضت تكاليف الأجهزة بنسبة 30% سنويًا، بينما تحسنت كفاءة الطاقة بنسبة 40% كل عام، وبخلاف ذلك فإن التنافسية تفتح آفاقًا جديدة للدول النامية من خلال النماذج مفتوحة المصدر والمنخفضة التكلفة التي تقدمها الشركات الصينية، مما يمنح دولًا كثيرة إمكانية الوصول إلى تكنولوجيا متطورة كانت ستظل بعيدة المنال لولا هذا التنافس.
صحيحٌ أن الدول النامية سيصل لها تقنيات الذكاء الاصطناعي ولكن هذا لا يمنع بأن نعترف بأن الفجوة بين قدرات الدول العظمى والدول النامية كبيرة جدًا، ومن الممكن أن تحتكر قلة من الدول والشركات أدوات الذكاء الاصطناعي والهيمنة السيبرانية، هذا بخلاف وجود مخاوف أخلاقية كبيرة تتعلق باستخدام الذكاء الاصطناعي كأداة للقمع والمراقبة وسرقة حقوق الملكية، بالإضافة لعدم وجود سياسات موحدة لأخلاقيات الذكاء الاصطناعي عالميًا، والتنافس قد يجعل الأخلاقيات مسألة نسبية أو حتى غير ضرورية في سبيل التفوق والريادة، وهنا ستبرز لنا مشاكل كبيرة مستقبلًا أهما الاستخدامات غير الأخلاقية للذكاء الاصطناعي وجعلها أداة تقتل وتسلب حريات البشر بدلًا من كونها أداة لتحسين حياتهم.
بعد عدة سنوات سنجد بأن التنافس في مجال الذكاء الاصطناعي سيتحول إلى ساحة جديدة للتنافس الجيوسياسي؛ حيث تعد كل من الولايات المتحدة والصين هذه التكنولوجيا أداة حيوية للأمن القومي والولايات المتحدة متخوفة بشكل كبير من التطور الصيني في هذا الجانب وقد أعلنتها صراحة بأنها ستفعل كل ما يلزم للتصدي للقدرات الصيني المتنامية، وهذه النقطة ستتحول مع الأيام لساحة حرب حقيقية قد تفرض علينا الكثير من السيناريوهات المستقبلية.
إنَّ المعركة الدائرة اليوم بين العملاقين ليست مجرد منافسة تجارية عادية؛ بل هي صراع على القيم والنظم التي ستشكل المستقبل البشري وقد نقولها- دون خجل- إن البشرية تقف اليوم على مفترق طرق، والمستقبل هنا غير مضمون، والضامن الوحيد هو قدرة المجتمع الدولي على وضع أطر أخلاقية وحوكمة شاملة تضمن أن تخدم هذه التكنولوجيا البشرية جمعاء، لا أن تتحول إلى أداة جديدة للهيمنة والصراع، وصحيح أن المجتمع الدولي اليوم في أضعف حالاته، إلّا أننا يجب أن ندرك أن مستقبل الذكاء الاصطناعي لم يكتب بعد، ونحن جميعًا مشاركون في صياغته اليوم، والتنافس الحاصل والذي لا يقتصر على الولايات المتحدة والصين ولا بين الشركات أنفسها بل ويشمل أيضًا التنافس العالمي على كعكة الذكاء الاصطناعي سيجعل البعض مستعد لأن يخرج عن النص ويطور نماذج هدفها الأساسي تحقيق الريادة والتفوق من أجل الهيمنة والسيطرة، وهذا إن حصل سنكون قد أحكمنا قبضة الذكاء الاصطناعي على رقابنا ومستقبلنا كبشرية.