مؤيد الزعبي
مشكلة كبيرة باتت تواجه كل شخص منَّا، ازدحام للأفكار للهواجس للمخاوف من أن يفوتنا القطار، قطار النجاح قطار المتعة قطار السعادة، فلم نعد نشتكي ضيق الوقت بقدر ما نشتكي شعورنا الدائم بأننا متأخرون، متأخرون عن ماذا لا نعرف ولماذا نحن متأخرون أساسًا أيضًا لا نعرف.
وعلى الرغم من وفرة التكنولوجيا ووفرة التطبيقات التي تعدنا بالسيطرة على يومنا وتحسين إنتاجيتنا، إلّا أننا مازلنا في نفس الدائرة من الخوف والتخوف، وكم مرة فتحت تطبيق المهام لتنجز شيئًا، فانتهيت بتعديل القائمة بدل تنفيذ شيء منها؟ وهذا يدل على أننا نعيش مفارقة قاسية: كلما ازدادت الأدوات، تراجع إحساسنا بالقدرة على الإنجاز. إنها مفارقة شلَّت حركة الكثيرين عن ماذا شلتهم لا أنا ولا أنت عزيزي القارئ نعرف أو ندرك، أحساس عام بأن شيئًا قد فاتنا أو سيفوتنا.
ما أود أن أقوله آسفًا إن التكنولوجيا التي نمتلكها اليوم أعادت تشكيل علاقتنا بالوقت؛ فالتطبيقات التي صُممت أصلًا لنتواصل بشكل أسرع أو تلك التي صممت لتوفير بضع دقائق يوميًا، خلقت معيارًا جديدًا يجعل كل لحظة غير مستثمرة وكأنها فرصة ضائعة وهكذا تحول الوقت من مساحة طبيعية للعيش إلى سباق دائم لا ينتهي، سباق بلا خط نهاية بلا حتى وجهة محددة، شعور بأن أحدًا يلحق خلفك وإذا لم تُسرع سيخطف مركزك وتكون أنت الخاسر.
لا تقلق عزيزي القارئ المشكلة ليست فيك تحديدًا، إنما هي أدوات الإنتاجية التي باتت تُقنعنا دومًا بأن المشكلة فينا نحن ولا تعترف بأن المشكلة في الإيقاع المتسارع للحياة الحديثة، أينما توجهت ستجد قوائم مهام لا تنتهي، وتنبيهات متواصلة، ورسائل وكتب وفيديوهات ومنشورات تحفيزية، تجعلنا نشعر بالذنب إذا لم نكن في حالة نشاط دائم، ومع الوقت أصبحنا أسرى ما أسميه وهم الانشغال، نعمل أكثر لكن ننجز أقل، ونشعر أن الوقت ينساب من بين أيدينا رغم كل التنظيم الظاهري.
والأخطر من هذا كله أن التحفيز تحوَّل لإحباط، وبتنا نخلط بين النشاط والإنتاج، وبين الحركة والتقدم، فنحن نعيش في ثقافة تروّج بأن القيمة الحقيقية للإنسان تُقاس بقدرته على مِلء يومه، فحتى أولئك الناجحين يروجون لفكرة أنهم ملتزمون بمعظم وقتهم في العمل والنشاط والحركة بلا توقف، وهكذا يزداد الضغط وتتحول الإنتاجية إلى عبء نفسي يرهق أكثر مما يساعد، وبهذا تتراكم المهام بلا معنى لنعيش وهم أننا مشغولون أو منشغلين بتحقيق أحلامنا رغم أن الحقيقة مختلفة عن الواقع تمامًا.
قد تسألني عزيزي القارئ: ما الحل؟ وأبدًا لن أقول لك إن الحل بإضافة تطبيق جديد يجدول لك مهامك أو ينظم لك وقتك؛ بل بفهم بسيط لطالما تجاهلناه: ليست المشكلة في الوقت؛ بل في طريقة رؤيتنا للوقت، فإدارة الوقت ليست سباقًا نحو الإنجاز؛ بل سؤال وجودي: ما الذي يستحق فعلًا أن نمنحه جزءًا من حياتنا؟ والسؤال الأهم أين نجد ذاتنا الحقيقة ليست تلك الموهومة بأن قطارًا قد فاتها، أو تلك التي تعتقد بأنها خارج محطة القطار أساسًا، نحن فعلًا بحاجة لأن نقيم علاقتنا بالوقت ونخفض من سرعة دوران عقولنا، ونلتقط أنفاسنا قبل أن تنفذ.
حتى أكون منصفًا لكل تلك المحفزات من حولنا، نعم نحن بحاجة لها لكي تدفعنا للأمام ولكن مشكلتنا أننا فقدنا البوصلة فلم نعد نميز بين ما يدفعنا للأمام وما يكبل حركتنا أو يسحبنا للخلف، والخلل كل الخلل أننا اعتقدنا أن الحياة بوصلتها اتجاه واحد رغم أن لها عدة اتجاهات، وأنا هنا في هذا الطرح لا أُقلل من قيمة التحفيز ولا من قيمة التكنولوجيا وتطبيقاتها التنظيمية أنما أطلق العنان لفكرة قد تكون رصاصة الرحمة للكثيرين لندرك أهمية الوقت ونجد فسحة وسط الزحام العظيم الذي نعيش.
في الختام.. عزيزي القارئ ربما علينا أنا وأنت أن نعيد ترتيب علاقتنا مع الزمن، فما نحتاجه اليوم ليس سباقًا آخر مع الوقت؛ بل مصالحة صادقة معه؛ فالتكنولوجيا مهما كانت متقدمة وقادرة على تنظيم ساعاتنا، لكنها عاجزة عن منح تلك الساعات معنى، فالمعنى لا يأتي من التطبيقات ولا من الجداول ولا من الشعور المستمر بأن شيئًا يفوتنا، بل من قدرتنا على اختيار ما يستحق فعلًا أن نمنحه جزءًا من حياتنا.
لقد استنفدنا أعمارنا ونحن نحاول التحكم بالوقت، بينما كان الأجدر بنا أن نفهمه لذلك، فلنخفف سرعتنا قليلًا، لنلتقط أنفاسنا، ولنُعيد ترتيب علاقتنا مع الزمن لا بوصفه خصمًا يجب التغلب عليه؛ بل رفيقًا يمكن العيش معه حينها فقط سندرك أن ما ظنناه سباقًا لم يكن سباقًا من الأساس.
