الذكاء الاصطناعي: سلاح قذر لإسكات أصوات الحق

خالد بن سالم الغساني
   ———————
في البداية، لابد من الإشارة إلى أن الذكاء الاصطناعي أداة محايدة، فهو ليس مصمماً لخدمة جهة بعينها، وإنما يعتمد تسخيره على من يمتلك الموارد والخبرات والبنية التحتية اللازمة لتطويره واستخدامه. لكن هذه الحيادية النظرية تنهار حين يقع في يد قوى تمتلك السيطرة على تطويره وتدريبه، إذ يصبح حينها انعكاساً لقيم ومصالح مطوريه. 
ومن خلال الاستعانة بالذكاء الاصطناعي ذاته في الكشف عن إمكاناته، يتضح أنه قادر على أن يكون أداة ابتكار وإبداع من جهة، أو أداة تدمير وخراب من جهة أخرى، وفقاً لمن يوجهه وكيفية استغلاله، بمعنى آخر، إنه سلاح أوحربة ذات حدين كلاهما فعّال، في أيدي من يمتلك الأدوات القادرة على إستغلاله.
وعند طرح سؤال مباشر على إحدى أدوات الذكاء الاصطناعي، حول الجهات الأكثر قدرة على تسخيره، لخدمة مصالحها، جاءت الإجابة واضحة وبدون تأخير: 
إنها الدول والشركات الكبرى ذات الاقتصادات القوية.
لم يعد الذكاء الاصطناعي أداة علمية محايدة، كما أريد له ان يكون في خدمة الإنسانية، بل أصبح في أيدي قوى الاستعمار والهيمنة، سلاحاً رقمياً فتاكاً، يضاهي في خطورته الصواريخ والقنابل. فالاحتلال 
الصهيوني وحلفاؤه، وفي مقدمتهم الولايات المتحدة الأمريكية، أدركوا مبكراً أن السيطرة على الفضاء الرقمي لا تقل أهمية عن السيطرة على الأرض، فسخروا أحدث ما أنتجه العقل البشري من تقنيات لخدمة مشروعهم الاستعماري، وتضليل الرأي العام، وخنق كل صوت يفضح جرائمهم.

ورغم أن الذكاء الاصطناعي بطبيعته أداة تعتمد على البيانات والخوارزميات، فإن تحكم القوى الكبرى في تصميمه وتدريبه حوله إلى مرآة تعكس مصالحهم ورواياتهم المسمومة. وكما تؤكد الأدوات نفسها عند سؤالها عن الجهات الأكثر قدرة على تسخير الذكاء الاصطناعي، فإن الدول الكبرى، وعلى رأسها الولايات المتحدة، والشركات التكنولوجية العملاقة مثل مايكروسوفت وجوجل وأمازون، هي صاحبة اليد العليا، تليها المؤسسات البحثية المتحالفة معها. هذا الاحتكار جعل التكنولوجيا رهينة لأجندات سياسية منحازة، وفتح الباب واسعاً أمام الاحتلال الإسرائيلي لتجنيدها في حربه على الشعب الفلسطيني.

في داخل هذا الاستغلال تقف تحالفات استخباراتية قذرة تتمثل في "وكالة الأمن القومي والـسي آي ايه" الأمريكيتان جنباً إلى جنب مع "الموساد" ووحدة "8200" التابعة لشعبة الاستخبارات العسكرية (أمان) في جيش الدفاع الإسرائيلي والتي تُعتبر واحدة من أبرز الوحدات الاستخبارية في العالم، المتخصصة في جمع المعلومات الإلكترونية والحرب السيبرانية، وتحليل البيانات؛ يطورون أنظمة خوارزمية تُسخّر للتجسس والمراقبة والتصفية الجسدية. 

أنظمة مثل "غوسبل" و “لافندر” اللتان تعتمدان على الذكاء الاصطناعي، ليست أدوات أمنية كما يدّعون، بل مصانع قتل آلي تستند إلى بيانات مراقبة جماعية، تُحوّل الفلسطينيين إلى أهداف على شاشة، وتحوّل الضغط على زر إلى مجزرة حقيقية. 
هذه الجرائم الرقمية تجد دعمها المباشر من شركات أمريكية تفتح خوادمها وخدماتها السحابية لجيش الاحتلال، في تواطؤ فاضح يحوّل التكنولوجيا المدنية إلى آلة إبادة.

الاحتلال لا يكتفي بسفك الدماء على الأرض، وممارسة الحصار التجويعي، بل يشن حرباً معلوماتية شرسة، يوظف فيها الذكاء الاصطناعي لفبركة الصور والفيديوهات عبر تقنيات الـ”ديب فيك” لتلفيق أحداث كاذبة ونسبها إلى الفلسطينيين أو المتضامنين معهم. وقد وثقت تقارير تحقيقية، منها تحقيق “نيويورك تايمز”، استخدام صور وفيديوهات مولّدة بالذكاء الاصطناعي خلال العدوان على غزة لتزييف الواقع، وزرع الشك في الشهادات الحية القادمة من قلب المأساة.

وفي موازاة ذلك، يدير اللوبي الصهيوني جيوشاً من الحسابات الوهمية والروبوتات الآلية المدعومة بخوارزميات منصات التواصل، تغرق الفضاء الرقمي بالدعاية المسمومة، وتهاجم كل محتوى داعم لفلسطين، وتبلغ جماعياً لإغلاق الحسابات. هذه المنصات بخوارزمياتها المتحيزة، تقلل وصول المحتوى المناصر للقضية، بينما تضخم الرسائل الإسرائيلية، في عملية منظمة لصناعة “فقاعات معلوماتية” تحجب الحقيقة وتبني جداراً رقمياً من الأكاذيب.

كما يوظف الاحتلال وعملاؤه الحرب النفسية الرقمية عبر اللعب على وتر الدين والهوية لزرع الانقسامات، وتسييس الرموز الدينية والنصوص لإشعال الفتن الداخلية، وتشويه وحدة الصف الفلسطيني والعربي. إنها استراتيجية اغتيال معنوي ممنهج، تهدف إلى ضرب ثقة الشعوب في رموزها الوطنية، وتجريد المقاومة من أي شرعية أخلاقية أو شعبية.

لكن وبالرغم من كل هذه الأدوات القذرة، والامكانيات الهائلة، يظل الاحتلال عاجزاً عن إسكات الحقيقة. فالنضال الفلسطيني الممتد عبر عقود من الدم والدمار والتشريد والتهجير، لم تكسره القنابل ولا الحصار، ولن تكسره خوارزميات منحازة أو روبوتات مأجورة. وكل محاولة لتشويهه أو خنقه تتحول إلى دليل جديد على عدالة القضية، وتزيد من تصميم الأحرار حول العالم على فضح هذا الكيان المجرم ومحاسبته على جرائمه.

لقد نقلت قوى الشر والطغيان المعركة الى كل الفضاء الرقمي، وعلى كل خادم ومركز بيانات، وفي مواجهة كل خوارزمية تتآمر على الحقيقة، ولم تعد معركتها فقط على الأرض، وهنا فإن الوعي الرقمي يصبح جزءاً من المقاومة، والكشف عن هذه الأسلحة القذرة واجباً وطنياً وأخلاقياً حتى لا تظل التكنولوجيا رهينة في أيدي المجرمين والقتلة.

تعليق عبر الفيس بوك

الأكثر قراءة