خالد بن سالم الغساني
أحيانًا تصادفك فكرة مكتوبة تدفعك لأن تعيد ترتيب أسئلتك القديمة، وهذا تقريبًا ما حدث معي حين قرأت مقالاً لأحد الكتاب المحترمين يتحدث من خلاله عن ما يسميه بـ "الرومانسية الثورية".
وما دفعني إلى كتابة هذا المقال هو ما جاء في ذلك النص، الذي قدم رؤية لها سياقها ومنطقها، لكنه حرك في داخلي رغبة في أن أقدم زاوية أخرى من المشهد؛ زاوية لا تهاجم ما كتب، ولا تصحح ما جاء فيه، ولا تدعي ابدًا امتلاك الحقيقة، لكنها ببساطة تُعيد فتح النقاش من جانب مغاير لما ذهب إليه الكاتب.
بعض ما ورد في المقال أعاد إلى الذاكرة نقاشات وكتابات كثيرة، وأيقظ أسئلة قديمة حول كتابة التاريخ والذاكرة والسرد، وكيف تُروى الحكاية ومن يملك حق روايتها، فكان هذا الرأي محاولة لإكمال الصورة التي بدت في رأيي، ناقصة إذا نظرنا إليها من اتجاه واحد فقط، أو لنقل للنظر إلى تلك الصورة من زاوية أخرى مغايرة.
من السهل دائمًا أن نرفع لافتة "تنقية التاريخ من الأوهام" ونهاجم ما نراه مبالغات أو رومانسيات ثورية في بعض الكتابات والروايات، لكن الأصعب هو أن نمتلك الشجاعة لنتعامل مع التاريخ كله دون انتقاء. وقبل الخوض فيما يسميه الكاتب الأصلي "الثورات" أو "الرومانسيات الثورية"- وهو وصفه هو لا وصف هذا المقال- ينبغي التذكير بأنَّ هذه التسمية في رأيي تحمل حكمًا مسبقًا على الأحداث قبل تحليلها، وتدفع القارئ إلى تبني رؤية أحادية لا تنصف تعقيدات التاريخ.
المقال الذي أثار النقاش في داخلي يقدّم نفسه بوصفه وقفة نقدية ضد "الحنين الثوري" لدى بعض الكتّاب، ويرى أن هؤلاء يُلوِّنون صفحات الماضي بألوان زاهية تخفي وراءها أحداثًا وحقائق أخرى أشد تعقيدًا. لكن الكاتب- وهو يوجه سهامه نحو التزييف الذي يراه عند الآخرين- يغض الطرف عن تزييف آخر لا يقل خطورة: التزييف الذي يكتبه المنتصرون، والتاريخ الذي صيغ بخطاب رسمي واحد لم يَسمح، في كثير من مراحله، حتى للاستفهام الهادئ.
قراءة التاريخ لا تكون بإلغاء نصفه وإشهار النصف الآخر. وإدانة تلك الحركات- التي يصرّ الكاتب على نعتها بصفات تنتقص من أهميتها، بوصفها مجرد اندفاعات رومانسية أو حنينًا شبقيًا إلى بطولات زائفة- تغفل حقيقة أن هذه الأحداث لم تقم من أو في فراغ، ولم تولد من خيال كاتب ولا من هوس سياسي؛ بل كانت نتاجًا مباشرًا لواقع اجتماعي قاسٍ، لسنوات من التهميش، والتجهيل، لغياب التعليم والصحة والحقوق الأساسية، ولظروف معيشية جعلت جزءًا كبيرًا من المجتمع يرزح تحت عبء التخلف والفقر والمرض. ما من حركة سياسية تعتمد السلاح وتخاطر بالبقاء والمصير إلا وكانت مدفوعة بأسباب تتجاوز حلم الثورة أو موضة التحرر. كان هناك ظلما حقيقيا، وكانت هناك مطالب مشروعة، بعضها تحقق لاحقًا، وبعضها الآخر بقي مؤجلًا.
إن التركيز على أخطاء تلك الحركات- وهي موجودة ومعلومة ولا يمكن إنكارها- مع تجاهل الأسباب التي أنشأتها، هو إسقاط للتاريخ من نصفه المهم. وكأن الكاتب يريد لنا أن نرى المشاركين فيها وكأنهم مراهقون حملوا شعارات لا يفهمونها، بينما كان كثير منهم أبناء بيئة مغلقة ومحرومة، لم يجدوا أمامهم إلا خيار الصدام بعد أن سُدت في وجوههم أبواب الإصلاح السلمي لسنوات طويلة. إن من يتحدث عن تزييف التاريخ عليه أن يتحلى بالاتساق نفسه حين ينظر إلى السردية الرسمية التي جرى ترسيخها لزمن طويل، والتي قلَّما سمحت بظهور روايات أخرى، سواء في الكتب أو المناهج أو حتى في الإعلام العابر.
وحين يلوم الكاتب وزارة الإعلام على سماحها بدخول بعض الروايات التي يرى فيها تحريفًا للوقائع، فإنه ينسى أن هذه الوزارة نفسها، في كثير من العقود الماضية، لم تكن تتيح إلّا رواية واحدة، ولم تكن تسمح بظهور أي نقد للسُلطة أو سياساتها أو علاقتها بالمجتمع؛ فإذا سمحت اليوم بشيء من التعدد، فهذا مهما بدا متناقضًا في إدارة الرقابة، الّا انه خطوة طبيعية في مجتمع يتغير، وإلا لظللنا أسرى لسردية لا تقبل سوى صوت واحد. من حق الكاتب أن ينتقد الكتب التي يراها خاطئة أو منحازة، لكن ليس من حق أحد أن يطالب بإقصاء الروايات الأخرى فقط لأنها لا تتماشى مع الذوق السياسي السائد.
إن من يرفض "الرومانسية الثورية" عليه أيضًا أن يرفض "الرومانسية السُلطوية"، وألا يُقدِّس الماضي الرسمي أو يعفيه من المساءلة. فالتاريخ لا يكتبه الثوار وحدهم ولا السلطة وحدها؛ بل يُكتب حين نفتح كل الملفات، ونسمح لكل الشهادات أن تُسمع، ثم نحتكم إلى المنهج العلمي بلا حواجز. ولعل الكاتب الذي تحدث عن "تدليس التاريخ" لم ينتبه إلى أن بعض التزييف الذي ينتقده قد ولد أصلًا بسبب التعتيم الرسمي الذي فرض لسنوات طويلة، والذي منع تداول الوثائق والمذكرات والحقائق، فاضطر الناس إلى رواية ما استطاعوا الوصول إليه، بكل ما فيه من نقص أو مبالغة أو اجتهاد.
إن فهم تلك المراحل لا يكون عبر محاكمتها فقط، ولا عبر تمجيدها أيضًا؛ بل عبر وضعها في سياقها الكامل: ظلم قائم، ومجتمع فقير، وغياب تنمية، واستبداد سياسي واضح في فترات معينة، وردّة فعل شعبية أخذت أشكالًا مختلفة، منها السلمي ومنها المُسلّح. وحين نقرأ التاريخ بهذا الاتساق، ندرك أن الخطأ ليس في من يحاول أن يكتب روايته؛ بل في من يريد أن يُسكت كل الروايات الأخرى ويجعل نفسه القاضي والجلّاد.
التاريخ الحقيقي ليس ما نُحب أن نسمعه؛ بل ما يجب أن نقرأه بكل ما فيه من ألم ودماء وسقطات وأخطاء وإنجازات، والتحدي اليوم ليس في قمع "الرومانسيات الثورية"؛ بل في مواجهة "الذاكرة المبتورة"، ومتى ما قبِلنا أن الحقيقة متعددة الوجوه، وأن لكل طرف جزءًا منها، حينها فقط نكون قد اقتربنا من كتابة تاريخ يستحق أن نسميه تاريخًا.
