أحمد بن علي الصبحي
يحتفل العالم في الثاني عشر من ديسمبر من كل عام باليوم الدولي للحياد، وهو اليوم الذي أقرته الأمم المتحدة في عام 2017 بهدف تعزيز الوعي العالمي بأهمية مبدأ الحياد في العلاقات الدولية ومساهمته في تعزيز السلم والأمن الدوليين. ويمكن تعريف الحياد على أنه الوضع القانوني والسياسي الذي تختاره دولة بالامتناع عن المشاركة في نزاع مسلح بين دول أخرى، وعدم تقديم دعم عسكري أو سياسي أو اقتصادي لأي طرف.
وتتنوع صور الحياد في العلاقات الدولية بين الحياد الدائم الذي تتبناه دول مثل سويسرا منذ القرن التاسع عشر وتكفله معاهدات دولية كمعاهدات لاهاي 1907؛ حيث يمثل التزامًا دستوريًا وقانونيًا يصبح جزءًا من الهوية الوطنية للدولة. وهناك أيضًا الحياد المؤقت الذي تلجأ إليه بعض الدول خلال نزاع معين كما حدث في الحرب العالمية الثانية قبل أن تعود للانخراط في تحالفات، وهو يمنح الدول مرونة أكبر في التكيف مع التغيرات الجيوسياسية المتسارعة. كذلك هناك الحياد الإيجابي الذي لا يقتصر فقط على الامتناع عن المشاركة في الحروب؛ بل يشمل المبادرة الدبلوماسية والوساطة وتقديم الحلول السلمية، وهو يعزز من مكانة الدولة الدولية ويجعلها شريكًا مرغوبًا في جهود الوساطة وبناء السلام. ويقابله الحياد السلبي الذي يقتصر على الامتناع عن المشاركة في الحروب، ولكن دون أي دور فاعل أو مساهمة في حل النزاعات، وقد يؤدي إلى عزلة دبلوماسية وتهميش للدور الإقليمي والدولي للدولة.
في اليوم الدولي للحياد، تبرز سلطنة عُمان كنموذج رائد للحياد الإيجابي في منطقة شرق أوسط شديدة الاستقطاب السياسي والأزمات. فمنذ تولي السلطان قابوس بن سعيد- طيب الله ثراه- الحكم في سبعينيات القرن الماضي، وضعت عُمان ركائز سياستها الخارجية على الحياد، عدم التدخل في شؤون الآخرين، واحترام السيادة الوطنية للدول، وهو النهج الذي استمر وأكد عليه حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم- حفظه الله ورعاه.
لقد أدركت القيادة العُمانية مبكرًا أن منطقة الخليج والشرق الأوسط تمثل ساحة معقدة من التقاطعات الإقليمية والدولية، وأن أي انحياز لطرف على حساب آخر سيجعل البلاد عرضة لضغوط وتهديدات متعددة. لذلك، اعتمدت عُمان استراتيجية دبلوماسية تقوم على بناء علاقات متوازنة مع جميع الأطراف، من الشرق والغرب، من الدول الكبرى والصغرى، ومن مختلف المحاور السياسية، مما جعلها محط ثقة الجميع.
استطاعت عُمان البقاء على مسافة واحدة من جميع الأطراف دون انحياز إلى أي طرف، كما امتنعت عن الانخراط في أية تحالفات عسكرية ضد الدول الأخرى، وعلاوة على ذلك برزت كوسيط دبلوماسي موثوق به في حل النزاعات مستعينة بالدبلوماسية الوقائية للحد من انتشار النزاعات ولبناء السلام والأمن في المنطقة والعالم. وفي عالم تتصاعد فيه المخاطر الجيوسياسية، يٌقدم النموذج العُماني درسًا بليغًا على أن الحياد ليس انعزالًا، بل هو أداة فعّالة لبناء السلام. إن الحياد العُماني هو موقف عقلاني يتيح للدول أن تكون مؤثرة وفاعلة على مسرح العلاقات الدولية، دون الانحياز لأي محور، بل بالانحياز لقيم الحوار والتفاهم والسلام.
ومن خلال مواقفها المحايدة عبر أكثر من خمسة عقود من الزمن، جسدت ومارست عُمان الحياد الإيجابي في عدة محطات تاريخية. ولعل من أشهرها خلال الحرب العراقية الإيرانية، والأزمة الخليجية، والأزمة اليمنية، والملف النووي الإيراني، وغيرها من الأزمات التي امتنعت فيها عُمان من الانحياز إلى أحد أطراف النزاع، مفضلة الانحياز إلى السلام والدبلوماسية والمشاركة بفاعلية في الوساطة وحل النزاعات والتي نجحت في كثير منها. هذا النهج العُماني يعكس إرث البلد التاريخي العريق المبني على التسامح والاعتدال والانفتاح، وكذلك إدراكًا عميقًا لأهمية الموقع الجغرافي المطل على مضيق هرمز، أحد أهم شرايين الطاقة العالمية. فبدلًا من الانخراط في صراعات القوى الكبرى، وظفت عُمان موقعها لتعزيز دورها كوسيط موثوق، قادر على مد الجسور بين الشرق والغرب. كما أن الحياد مكّنها من حماية سيادتها، وامنها الوطني، وتنميتها الاقتصادية، وجذب الاستثمارات، وتعزيز صادراتها، في وقت كانت فيه المنطقة تعاني من اضطرابات مستمرة.
في السابق، ظلت فلسفة الحياد العُماني الفريدة في الشرق الأوسط لفترة من الزمن صعبة الفهم على البعض، متهمين هذا الحياد الإيجابي بالانعزال أو الصمت السلبي أو حتى الضعف. إلا أن اليوم أصبحت هذه الفلسفة واضحة وتلقى إشادة وتقدير المجتمع الدولي ودول المنطقة بعد أن اتضحت نتائج الانحياز والتدخلات التي تمارسها بعض الدول في الشؤون الداخلية للدول الأخرى والانخراط في التحالفات العسكرية والسياسية المنحازة وحروب الوكالة في منطقة تحتاج الانحياز إلى السلام أكثر من الانحياز إلى الحرب. وهو الأمر الذي يؤكد عليه اليوم خبراء العلاقات الدولية؛ إذ يرون أن التزام الدول بالحياد يعكس نضجًا سياسيًا ورؤية استراتيجية بعيدة المدى، ويمنحها القدرة على بناء شبكة واسعة من العلاقات المتوازنة بعيدًا عن الاستقطابات التي كثيرًا ما تقود إلى أزمات غير محسوبة. كما يؤكدون عى أن الحياد الإيجابي يُعدّ استراتيجية فعّالة في حماية سيادة الدول وتعزيز استقرارها الداخلي.
إنَّ التحديات التي يواجهها العالم اليوم من تصاعد التوترات الجيوسياسية، وانتشار النزاعات الإقليمية، وارتفاع حدة الاستقطابات السياسية، تجعل من الحياد الإيجابي أكثر أهمية من أي وقت مضى. فالعالم بحاجة إلى دول محايدة تستطيع أن تشكل جسورًا للحوار بين الأطراف المتنازعة، وأن توفر مساحات آمنة للتفاوض والوساطة بعيدًا عن الضغوط السياسية والعسكرية. إن الاحتفال باليوم الدولي للحياد ليس مجرد مناسبة رمزية؛ بل هو دعوة متجددة وتذكير للمجتمع الدولي للتفكير في كيفية استخدام الحياد كأداة للسلام في مواجهة الانقسامات العالمية. وعُمان، بسياساتها المتوازنة، تقدم نموذجًا عمليًا يُظهر أن الحياد، حين يقترن بالدبلوماسية النشطة والحكمة السياسية، يصبح قوة حقيقية قادرة على نزع فتيل الأزمات وبناء الجسور بين الشعوب والدول.
في اليوم الدولي للحياد، يتأكد للجميع أن سلطنة عُمان لا تمارس الحياد كمبدأ نظري، بل كنهج عملي راسخ أثبت قدرته على تحقيق السلام والاستقرار على المستويين الإقليمي والدولي. تقدم عُمان درسًا عالميًا حول قوة الحياد عندما يقترن بالدبلوماسية النشطة والحكمة السياسية، مما يجعلها منارة للدبلوماسية الهادئة ومثالًا يحتذى به على كيفية أن تكون الدولة فاعلة ومؤثرة دون الانحياز لأي طرف، بالانحياز فقط لقيم السلام والحوار. ويظل اليوم الدولي للحياد دعوة متجددة للمجتمع الدولي للعمل المشترك، ليس فقط للدول التي تتبنى الحياد، بل للجميع، لاستثمار هذا المبدأ كأداة فعّالة للسلام في عالم يتزايد فيه الانقسام والاستقطاب. إن الالتزام بمبادئ الحياد يعزز فرص إقامة علاقات دولية مستقرة ومتوازنة، ويتيح للأمم المتحدة والدول المحايدة القدرة على ممارسة دبلوماسية وقائية فعّالة، ويثبت أن الحياد، حين يقترن بالحكمة السياسية والتصرف المسؤول، يمثل قوة استراتيجية حقيقية تسهم في بناء جسور التعاون بين الدول وتحقيق الأمن العالمي.
