الخيال

 

 

بدر بن خميس الظفري

@waladjameel

 

الخيال هو تلك القدرة التي تُنقذ الإنسان من ضيق اللحظة إلى رحابة الممكن، وتفتح أمامه أبوابًا لا تطرقها الحواس وحدها. فبدونه يظلّ الوجود كتلةً صمّاء، ومعه يتحول إلى معانٍ وألوانٍ وصورٍ حيَّة. هو القوة التي تجعل الطفل يحوّل لعبة صغيرة إلى مدينة تعجّ بالحركة، وتجعل الحزين يرى أحبته الذين غيّبتهم المقابر، وتجعل العالم يهتدي إلى اختراعٍ لم يكن له في الواقع شاهد.

في كتاب «الجمهورية» للفيلسوف اليوناني أفلاطون، حُمل الخيال على محمل الاتهام، ووُصف بأنَّه باب الالتباس والبُعد عن الحقيقة. وقد رأى أن الشعراء، بما يملكون من قدرة على الإيهام، يهددون استقرار المدينة العادلة إذا تُرك لهم الحبل على الغارب. أما الفيلسوف الفرنسي بليز باسكال فقد رأى في كتابه «خواطر» أن الخيال عدوُّ العقلِ ومصدرُ الزيف؛ لأنه يُزيِّن الأباطيل حتى تبدو كأنَّها حقائق. وكان يُعِدّه قوةً مُراوِغةً تخدع الإنسان في قضاياه الكبرى، حتى في الدين والسياسة. وذهب الشاعر والأديب البريطاني صامويل جونسون في روايته «راسيلاس» إلى أن الخيال يُغوي العقل بلذائذ كاذبة، ويغمره بما أسماه «الزيف اللذيذ». وقد جسّد ذلك في شخصية الفلكي المجنون الذي يظنّ نفسه قادرًا على التحكم في الشمس والمطر بمجرد تصوّره. هذه الرؤية تتهم الخيال بأنَّه قناعٌ يُغشي البصيرة ويُضلّ الفكر.

لكنَّ التاريخ والواقع يُقدّمان وجهة نظر مُغايرة. فقد جعل الفيلسوف اليوناني أرسطو الخيال شرطًا لكل تفكير، ورأى أنَّ العقل لا يعمل إلّا في صورةٍ. وكان يعُدّ الخيال امتدادًا للذاكرة، يوفّر للعقل مادة أولية يبني عليها استدلالاته. أما الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط فقد أقام للخيال منزلةً عليا في كتابه «نقد العقل المحض»، إذ جعله وسيطًا بين الحواس والفهم، وبه يتولد الإدراك، وبه يتذوق الإنسان الجمال ويتأمل عظمة الطبيعة. وقد وصف الخيال عنده بأنه «القوة التركيبية» التي تمنح التجربة وحدتها وتربط بين الجزئيات في نسق واحد. أما شعراء الرومانسية فرفعوا الخيال إلى مقام «القوة الإنتاجية» التي توجِد العالم في صورٍ جديدة.

وليس الفكر العربي ببعيد عن هذه النظرة؛ ففي «كتاب الحيوان» للجاحظ، الأديب المعتزلي البَصْريّ، حديثٌ عن قوة الوَهم التي تُمكِّن العقل من أن يتصرّف في الصُوَر ويُعيد تركيبها. وكان الجاحظ يرى أن لهذه القدرة أثرًا في الشعر والخطابة؛ إذ تمنح الكلام حياةً تتجاوز ظاهر الألفاظ. ويرى أبو حيان التوحيدي في كتاب «الإمتاع والمؤانسة» أن الخيال «صنعة الروح»، به تتسع الصور عن حدود الحس، ويغدو العقل قادرًا على الجمع بين المُمكن والمُستحيل. وقد أشار التوحيدي إلى أن الخيال يفتح للإنسان بابًا لابتكار المعاني التي لا تُدرَك بالحواس وحدها. وهذه الإشارات العربية تُبيِّن أن الخيال في تراثنا كان بابًا للمعرفة كما كان نافذةً للدهشة.

وللخيال دورٌ حاسم في مسيرة العلم؛ فهذا العالم الفيزيائي ألبرت أينشتاين يقول: «إنّ الخيال أهم من المعرفة». وقد كان يُجرِّب نظرياته في صورٍ ذهنية قبل أن تُثبتها المعادلات. وفي كتابه «تطور الفيزياء» شرح كيف أن طرح الأسئلة الجديدة والنظر في المشكلات من زوايا غير مألوفة يتطلب خيالًا خلّاقًا. وليس غريبًا أن الطائرة التي حلّقت في السماء، والصاروخ الذي أوصل الإنسان إلى القمر، والمجاهر التي اخترقت دقائق الحياة، كلّها بدأت بخيال قبل أن تتحول إلى صناعة وواقع ملموس.

أما الأدب والفن، فهما الميدان الأرحب للخيال؛ فهذا هو الروائي الروسي ليو تولستوي قد أعاد روسيا القرن التاسع عشر إلى الحياة في رواية «الحرب والسلام»، من خلال تخيُّل أبطال لم يُسجِّلهم التاريخ، لكنهم جسَّدوا زمن الحروب النابليونية بروحٍ إنسانيةٍ باقيةٍ. ويصوغ تولستوي مشاهد المعارك وكأنَّها تجري أمام القارئ، فيرى الجنود على السهول المُتجمِّدة والخيول في العواصف وكأنها لوحة نابضة بالحياة. أما الروائية الأمريكية توني موريسون فقد تخيّلت في روايتها «جاز» بدايات القرن العشرين في أمريكا. وتنسج موريسون شخصيات مُتخيَّلة تعيش في قلب حيّ هارلم في مدينة نيويورك، الذي أصبح مطلع القرن العشرين مَركزًا ثقافيًّا وفنيًّا للأمريكيين من أصول أفريقية، فتجعل القارئ يرى الأزقّة المُزدحِمة ويسمع صدى الموسيقى، كأنه انتقل بخياله إلى ذلك الزمن. وكذلك الكاتب الإسباني ميغيل دي سيرفانتس الذي قدّم في روايته «دون كيخوته» صورةً ساخرةً لقوة الخيال إذا انفلت من قيود العقل. ويتجلى ذلك حين يجعل سيرفانتس بطله يرى في طواحين الهواء عمالقة مُتخفِّين، فيحوِّل الخيال الوهمي إلى مسرح كامل تتحرك فيه الشخصيات وكأنها تعيش عالمًا موازيًا.

وللخيال كذلك أثرٌ أخلاقي وسياسي؛ فهو الوسيلة التي تجعلنا نضع أنفسنا موضع الآخر، ونفكر بعينه لا بعيننا. بهذا المعنى، يُصبح الخيال أساسًا للتعاطف، وبوابة لفهم المختلفين عنَّا، وسلاحًا ضد الانغلاق والتعصب. في الحياة اليومية، وفي ميادين السياسة، لا تُبنى العدالة ولا تُصان الحقوق من دون قدرة على التخيُّل؛ لأنها تتيح تجاوز الحاضر نحو ما يجب أن يكون.

غير أن الخيال لا يخلو من وجهٍ مُظلم؛ فهو كما يفتح أبواب الإبداع، يفتح أيضًا أبواب الوهم؛ لأنه ينسج أحلام اليقظة، ويُغذِّي الخُرافات، ويزرع نظريات المؤامرة في العقول، ويستثير القلق والمخاوف المُبالغ فيها. لذلك وصفه بعض المفكرين بأنه «سيف ذو حدين»، فإمَّا أن يرفع الإنسان إلى أفقٍ من الحرية، وإمّا أن يُسقطه في مهاوي الوهم.

إنَّ المسؤولية تقتضي أن يُهذَّب الخيال بالمعرفة، ويُصقَل بالذوق، ويُربَّى على الانسجام بين الحرية والانضباط؛ فإذا تحقق ذلك أصبح الخيالُ أداةً للمعرفة والتقدُّم، وأحد أركان الحضارة. أما إذا تُرك بلا توجيه، تحوَّل إلى نارٍ تحرِق صاحبها قبل أن تُضيء طريقه.

الأكثر قراءة