بدر بن خميس الظفري
@waladjameel
كُريّات القلب السوداء تجري في عروق البشر كما تجري كُريّات الدم الحمراء والبيضاء، تغذّي عقولهم، وتحكم تصرّفاتهم، وتحدّد مصائرهم. هي كُريّات خفيّة لا تُرى بالمجاهر، ولكن تُرى في المواقف. تنبض في القلوب التي أرهقها الضعف، وتستيقظ حين تغفو المروءة، فتبدّل صفاء الإنسان غشاوةً على بصيرته، وتغلق أبواب الرحمة في صدره.
الكُريّة السّوداء الأولى هي الحسد، وهو مرضٌ يختبئ في زاويةٍ من القلب، لا يُحدث جلبة، لكنه يلتهم صاحبه ببطءٍ يشبه الاحتراق. ينظر الحاسد إلى النعمة كما ينظر الجائع إلى رغيفٍ في يد غيره، يتمنى أن تسقط من يده ولو لم يذق منها شيئًا. الحسد يبدّل الموازين، فيجعل النعمة نقمة، ويحوّل الفرح إلى ضيقٍ لا يُحتمل. كلّ حاسدٍ يعيش في ظلال المقارنة، يقيس رزقه بميزان غيره، وينسى أن الأقدار تُقسم بالعدل الذي لا يُرى بالعين، بل يُدركُ بالعقل المتزن والقلب الراضي. ومن وطّن نفسه على الرضا، عاش في نورٍ يُطفئ كلّ نارٍ يشعلها الحسد في صدور الآخرين.
الكريّة الثانية هي الكِبْر. والكِبر مرضٌ يملأ الصدر بفراغٍ متعجرف، يوهم صاحبه بأنَّه فوق الآخرين بينما هو يبتعد عن نفسه. ينشأ من خوفٍ دفينٍ من النقص، فيُخفي المتكبّر ضعفه في ملامح التشدّق والتعالي. لا يرى في الناس ملامحهم، بل يرى انعكاسًا لصورتِه كما يريدها أن تكون. يمشي بثقلٍ مصطنع كأنَّ الأرض لا تليق بخطاه، ويتحدّث بلهجةٍ تظنّ الكلمات أنها خُلقت لتخدمه. وكلما ازداد الكبر اتّسع فراغ القلب، وانكمشت المساحة التي يسكنها النور. وفي اللحظة التي يسقط فيها المتكبّر، وتلامس قدماه التراب، يشعر أنَّه عاد إلى حجمه الحقيقي.
الكريّة السّوداء الثالثة هي الغرور، وهو خيالٌ داخليٌّ يجمّل الضعف ويمنحه هيئة القوّة. يبدأ همسًا في النفس: "أنت الأفضل، لا تحتاج إلى أحد"، ثم يتحول شيئًا فشيئًا إلى جدارٍ عازلٍ يحجب الحقيقة. إنّ المغرور يعيش في مرآةٍ ضبابية يرى فيها نفسه أكبر مما هي، فيطمئن إلى وهمٍ يظنه اكتمالًا. كلّ خطوةٍ يخطوها تُبعده عن أصله، وكلّ نجاحٍ يحققه يغذّي في داخله وهم الكمال. وحين يواجه أول خيبة، يشعر كأنَّ الأرض سُحبت من تحته، لأنه بنى سماءه على هواء. الغرور لا يرفع الإنسان؛ بل يُثقله ويجعله يدور حول نفسه حتى يتعب من نفسه. وفي لحظة الصمت بعد التصفيق، يدرك أنَّ الصوت الوحيد الذي كان يسمعه طيلة الوقت هو صدى صوته في الفراغ.
الكريّة الرابعة هي العُجب. والعُجب بذرةٌ تنبت في تربة النجاح حين يغيب التواضع. يبدأ إعجابًا خفيفًا بالإنجاز، ثم يتضخّم حتى يغدو عبادةً خفيّة للذات. يظنّ صاحبه أنَّه بلغ النهاية، فيتوقّف عن التعلم، ويشيخ قبل أوانه. العجب يغلق الأبواب أمام الإصلاح، ويُجمّد الزمن عند لحظةٍ يظنها المجد الأبدي، بينما الأيام تمضي تاركةً وراءها صدى اسمه يبهت شيئًا فشيئًا. إنّ القلب الذي يسكنه العُجب لا يسمع صوت الحكمة، لأنَّ صوته الداخلي أعلى من كل نداء.
الكريّة السّوداء الخامسة هي الحِقد. والحقد جرحٌ قديمٌ لا يريد أن يلتئم. يعيش في الأعماق كرمادٍ تحت رماد، يُخفي نارًا لا تهدأ. الحاقد يحمل ماضيه على كتفيه أينما ذهب، يُعيد مشاهد الألم في ذاكرته كما لو أنها الحاضر الدائم. يمشي في الناس ولا يرى فيهم إلا أعداءً محتملين، فيفقد القدرة على الحب، لأن الكراهية احتلّت المساحة كلها. ألا ما أثقل قلبًا لا يعرف الصفح، وما أضيق صدرًا يُصرّ على حمل أحجار الغضب في طريقٍ طويل. إنّ الحقد يستهلك العمر كما تستهلك النار الحطب، حتى لا يبقى من صاحبه سوى رمادٍ من العزّة المكسورة.
الكريّة السادسة هي الرياء، وهو مكرُ النفس حين تخاف أن تُرى على حقيقتها. يتزيّن صاحبه للنَّاس كما يتزيّن التمثال الخشبي بالذهب، يخفي هشاشته تحت مظهرٍ لامع. والرياء سرقةٌ صامتة، يسرق بها الإنسان صدقه دون أن يشعر. يتحدّث عن الخير لا حبًا فيه؛ بل توقًا إلى التصفيق، ويبتسم للناس لا دفئًا، بل أداءً متقنًا لدورٍ لا يشبهه، وكلّ من تعلّق بنظرة النَّاس مات في أعماقه شيءٌ من الحرية، لأنَّ الحرّ الحقيقي هو من لا ينتظر تصفيق أحدٍ ليحيا.
الكريّة السّوداء الأخيرة هي النفاق. والنفاق وجهان لقلبٍ واحدٍ لا يعرف الطمأنينة. يعيش المنافق ممزّقًا بين خوفين: خوفٍ من الناس وخوفٍ من نفسه. يتلوّن كما تتلوّن الحرباء في النهار، لكنه حين يختلي بظلامه، يسمع ضجيج التناقض في صدره. والنفاق يُفسد الكلمة، فيجعلها تقول ما لا تعنيه، ويفصل بين اللسان والقلب كما يُفصل الجسد عن روحه. وحين تتكاثر الأكاذيب في قلب المنافق، يضيع منه الطريق إلى ذاته، فلا يعرف من يكون، لأن الحقيقة غادرته يوم اختار أن يجمّل قبحه بدل أن يُصلحه.
كلّ هذه الكريّات السوداء تتناوب على القلب كما تتناوب الفصول على الأرض، ومن لم يُطهّر قلبه منها، صار كمن يسكن بيتًا مغطىً بالغبار، لا يرى الألوان حتى لو كانت أمامه. ولذا فإنّ تطهير القلب طريقٌ للنجاة من العمى الداخلي، فهو الذي يعيد للإنسان بصيرته قبل بصره، لأن القلوب لا تخمد دفعة واحدة، وإنما يبهت نبضها كلّما ازدادت فيها الكريّات السوداء، حتى تفقد دفء الحياة. والشفاء يبدأ حين يعترف الإنسان بعلّته، ويضع يده على صدره ليعرف مقدار الرحمة التي ما زالت تنبض فيه، وحين تثمر في قلبه بذرةُ محبةٍ صادقة، تذوب أمامها الظلمات كلّها، ويعود القلب إلى صفائه الأول، يحمل كريات حمراء نقيّة.