ريم الحامدية
في مساء هادئ من مساءات سبتمبر، فتحت نافذة غرفتي المُطلة على شرفة أعتبرها مشهدًا سينمائيًا؛ حيث يتراقص ضوء القمر فوق أهداب الليل، كنتُ أتأملُ لعل نسيمًا من هواء مسقط يغدق بالرضا على روحي. كان الصمت يحكي أسرار اليوم المنقضي، والأفق يُغني لحنًا خافتًا عن الزمن وما يحمله من وداع ولقاء. في تلك اللحظة شعرت بأنَّ الوفاء ليس مجرد كلمة تُقال، بل إحساس عميق يُحسّ، وعهد صامت يُخلّد في القلب قبل أن يُخط على الورق.
تخيلت الوفاء، فتمثل لي كضوء شمعة على الطاولة المقابلة لي، ثابت لا يختفي مهما اجتاحت الرياح أو هدتها العواصف، لا يذوب مهما طال البرد أو قست الأيام. هو الوعد الصامت الذي تلتزم به الأرواح، النظرة التي تعانق الغائب قبل أن يطرق باب القلب، اليد التي تمسك بنا حين نتعثر في دروب الحياة، والابتسامة التي تُعيد لنا الأمل حين نخسر كل شيء إلا بعض القلوب الوفية.
الوفاء ليس فعلا يقاس بالزمن؛ بل حياة تُعاش، وقلوب تُحرس، ووعود تُحافظ عليها الأرواح بلا شروط. هو الوطن حين يحتضننا مهما ابتعدنا، والصديق حين يظل حاضرا رغم المسافات، والحبيب حين يبقى في القلب رغم البعد، وسرّ الروح الذي لا يعرفه إلا النبلاء، أولئك الذين يختارون أن يبقوا صادقين مع الحب والحياة، ومع من يستحقون الوفاء بلا مقابل، ويستشعرون جمال اللحظة حين يبقى الوفاء حاضرًا كقمر يُنير الظلام، كنسيم يلامس القلب، كضوء صغير يضيء عالمنا كله.
لقد جسَّد القرآن الكريم الوفاء في أبهى صوره كأمانة تحفظها الأرواح قبل الأقوال وعهد يصان في القلوب ليصبح الوفاء صفة من صفات المؤمن وعهدا لا يزول مهما تغيرت الأيام؛ حيث قال الله تعالى في محكم كتابه " وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ" (المؤمنون: 8).
الآية الكريمة تُبيِّن جوهر الوفاء في الإنسان؛ فالوفاء لا يقتصر على الشعور أو الكلام؛ بل هو عهد روحي وأمانة ثقيلة تعكس صدق الإنسان مع نفسه ومع الآخرين ومع الله قبل كل شيء.
إنها دعوة لأن يكون الوفاء أسلوب حياة وأن نحفظ الكلمة كما نحفظ الدم، وأن نصون الثقة كما نصون الروح وكلما رعى الإنسان عهده وأمانته، ارتقى في مدارج الإيمان.
وفي نهايات هذا المساء على رصيف الشرفة وبين القمر والنسيم والصمت، شعرتُ أن الوفاء هو كل ما يبقى؛ فهو الأمل الذي لا يموت والحب الذي لا يذبل والقلوب التي اختارت أن تبقى وفية مهما تقلبت الأيام.. فتمسكوا بالوفاء- أيها الأحبة- ودعوا قلوبكم تحمله وأرواحكم تعيشه؛ لأنَّ الرحلة لم تنتهِ بعد، والليل يحمل في طياته آلاف اللحظات ليظل الوفاء حاضرًا ينبض يتنفس ويكبر بلا نهاية وبلا حدود.