رب اشرح لي صدري

 

 

أنيسة الهوتية

أفكر «واحلل عقدة من لساني» عنوان أنسب؟ أم «ربي اشرح لي صدري»؟ وكلاهما دعاء كليم الله موسى عليه السلام حين أرسله الله تعالى، بعد إعداد طويل بالعظة والتربية النبوية، إلى فرعون.

وقال الله تعالى لموسى وهارون عليهما السلام حين أرسلهما إلى فرعون: «وقولا له قولا لينا»، سورة طه، الآية 44." وهذه الآية تأملتها فوجدت أنها ممتلئة بالرحمة والحرص على التواصل والحوار العقلاني، حتى مع فرعون الجبَّار الظالم. فهي تذكير بأنَّ الله يدعو إلى دينه باللين والترغيب أولًا.

ولكن هذه الآية كانت أيضًا وصيةً خاصةً لكليم الله موسى عليه السلام، الذي كان غيورًا جدًا على الحق، لا يُطيق الظلم، وسريع الانفعال بردَّات فعل مفاجئة لمواجهة الظلم. ويتضح هذا في عدة مواقف من حياته: من وكزه للرجل القبطي بالعصا نُصرةً لرجل من بني إسرائيل، إلى رميه للألواح غضبًا، وجرّه لرأس أخيه هارون بعد عودته من جبل الطور، وفي رحلته مع الخضر عليه السلام؛ حيث كان يُوجِّه الأسئلة بغضبٍ على كل موقفٍ، رغم أن الخضر طلب منه الصبر وعدم التسرُّع، ليُعلمه الحكمة وراء كل موقف لاحقًا.

من هنا جاء دعاؤه: «ربي اشرح لي صدري». لم يكن الرجاء لحفظ النص الذي سيُلقيه على فرعون؛ بل أن يزيد الله سعة صدره للصبر والتحمل على إدارة الحوار مع فرعون دون أن تنفجر فيه ردَّات فعل موسى الإنسانية كأي إنسان ذي فطرة سليمة.

أما دعاؤه «واحلل عقدة من لساني»، فله قصة وموقف حكيم أنقذ حياته من الإعدام على يد فرعون للمرة الثانية بفضل تدبير زوجة فرعون آسية رضي الله عنها. لكن هذه الحادثة تركت أثرًا في لسانه حين لسعته الجمرة في قصة التمر والجمر. لذلك قال: «وأخي هارون هو أفصح مني لسانا…».

وقد أتتني القريحة الشبه شعرية بهذه الأبيات بعد قراءتي الخامسة والخمسين لقصة كليم الله، ونصيحةً لكل شخص يُعاني من ضيق الصدر وسرعة الغضب أن يُكرر ذات الدعاء، فإني:

رأيتُ كَليمًا للغُيُوبِ مُحاطَهُ // وفي كُلِّ أمرٍ سرُّهُ العجبُ.. عَظِمُ

يُجَاهِدُ صَبرًا ثمَّ يَفقِدُ حِلمَهُ // كَأنَّ هُداهُ في الحَوادثِ سُحبٌ.. غَيمُ

ظلَّ يسألُ: أيُّ سرٍّ حَملْتَهُ؟ // فجاءَ الجوابُ، والسُّؤالُ مُتَّهَمُ

ولمّا تَجلّى العِلمُ في لَحظةٍ // تَفتَّحت جروح السُّؤالِ، والعقلُ مُزدحِمُ

تبسّمَ الخَضِرُ السَّريُّ وقالَ في // هدوءٍ: هذا فِراقُ ما بَينِي وبَينَكُمُ

فمضى الكَليمُ وفي الجَوانِحِ حَسرَةٌ // كأنَّ الليلَ يَخبُو في قلبهِ دَمُ

أولُها كَسرُ السفينةِ التي لم تَضرْ // إلا أنَّ القلبَ على الحقِّ ينصرمُ

ثانيها قتلُ الغلامِ في غَفلةٍ // فاحتارَ صَبرًا، وضاقَ الفؤادُ مِنهُمُ

وثالثها جدارُ القَريَةِ المُخرَّبِ // فارتقى غيظًا، ولم يبقَ لصبره مُقيَمُ

غضب الكليمُ حين الظلمَ ينضح نضحًا // وقلْبُهُ على الحق نارًا يضطرمُ

بدلالة القبطي حين وَكزَ دفاعًا // ما ارتدَ عن الحق، والظلم عنده ظُلَمُ

رمى الألواحَ في غضبِ هَمهِ // وضاقَ صدرُه بجهلهم.. وفؤادهُ محتدم

وجَرّ هارونَ أخاهُ في زحام الحقِّ // وقلبه يشتعل والحُزنُ فيه مُتخَمُ

فدعا ربه: «ربي اشرح لي صدري» // فشرح الله صدره.. والهدى أبرمُ 

وهدأ طبعه، إذ لا يطيقُ الظلمَ // واستنار صدره كاظمًا لله مُسلمُ

ليذهب إلى فرعون، ويقل له قولا لينا // بالحق والعدل، والحِكمةِ تُعَلَمُ

موسى بطبعه لا يحتملُ ظلمًا // فصدره يشتعل غيرةً كبركانِ حَمِمُ

فاستنار قلبهُ بنورٍ من ربهِ // يسيرُ صابرًا، وبطريق الحقِّ يلتَحِمُ

وحين لسعت الجمرةُ مركزَ لسانه // ثقلَ نطقه، وكلامه للبعض كان لا يُفهَمُ

فدعا ربه: «واحلل عقدةً من لساني» // كي ينطق فقها بحكمةِ وهو ملتزمُ

حتى صار دليلًا في كلِّ أمرٍ // موسى… مضرب حقٍ حكيم… عَلَمُ

الأكثر قراءة