فلسفة السِحر؟!

 

 

أنيسة الهوتية

نعيش في كونٍ تُدبِّره إرادةٌ واحدة فقط، وهي إرادةُ خالقه؛ إذ لا يقع فيه من خيرٍ أو شر إلّا بإذن الله سبحانه وتعالى، حتى السِحر الذي يصيب الإنسان بضررٍ لا يعمل إلا بإذن الله.. من باب الامتحان للطرفين، الطرف المُعتدي يملي الله له كيده، والطرف المعتدى عليه يختبر الله قوة إيمانه وثباته.

قال الله تعالى في سورة البقرة الآية 102: (وَمَا هُم بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ). وهذه الآية هي دليل فلسفي على سبب وجود السحر كفتنة لبني آدم؛ حيث تتخلل بـ"فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ" بعد ذكر المَلَكين هاروت وماروت، ثم تُختم بتوضيح الفلسفة العظيمة والحكمة الإلهية في مسألة الإذن.

فلا شرَّ يتحرك في هذا العالم إلّا ضمن نطاق حكمة الله، ولا سهمَ يصيب المؤمن إلّا وقد سُجِّل في كتاب الله؛ فالله- جلّ جلاله- لم يخلق الشر عبثًا، ولم يُمكّن الساحر إلّا ليفتنه به. أما المصاب بالسحر فإنِّه يقاد رغمًا عنه في مسار التطهير من ذنوب قد اقترفها في حق نفسه، أو توجيه إلى طريق ليتقرب به إلى الله بعد أن ابتعد… وإن لم يكن هذا وذاك، وهو إنسان متقرب من الله تعالى، ويتعالى عن الذنوب وكبائر الآثام فإذن هنيئاً له لأنه الآن في بشارة لحصوله على ترقية خاصة إلى منصب أعلى عند الله سبحانه وتعالى. 

أمَّا الساحر ومن سعى لعمل السحر في الناس فإنه قد اختار بإرادته أن يسلُك طريق الشيطان، فيترك الله له حرية الفعل، ثم يأذن بوقوع أثره على من شاء من عباده اختبارًا لهم، لحكمةٍ لا يعلمها إلا الله سبحانه. وقد قال سبحانه وتعالى في سورة التغابن الآية11: "مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ".

وكُل ابتلاءٍ يحمل في طيّاته طريقًا إلى الهداية، أو تطهيرًا من ذنبٍ قد سبق، أو ترقية له من الله سبحانه. والمؤمن الحق لا يتوه عن الآية 76 في سورة النساء: "إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا".

من هنا يجب أن نفهم التحصين الحقيقي ليس في قراءة المعوِّذات، واقامة الصلاة في وقتها فقط؛ بل في الصلة الصادقة بالله والإيمان به وحده مع كل ذلك. والمؤمن الذي يملأ وقته بذكر الله، ويستغيث به دائمًا، شكورٌ في السراء، صبورٌ في الضراء، هو في حصنٍ منيع لا تنفذ إليه الشياطين.

أما من يلجأ إلى الصلاة والعبادة وتلاوة القرآن وقراءة الأذكار خشية أن يمسه الشيطان أو الجن أو السحر دون الطاعة لله والتقرب منه سبحانه؛ فهو على مدخل خطوة واحدة من الشرك بالله، لأنه بذلك يعترف في خوالجه بقوة السحر، والجن، والشياطين، والذي وإن اجتمعت شياطين الإنس والجن في الكون كله في كفة لا تساوي قوتهم حبة خردل أمام قوة الله سبحانه وتعالى؛ فإنه هو الخالق، سبحانه وتعالى عمَّا يصفون، وهل يقوى مخلوق على شيء أمام الخالق؟!

والإذن الإلهي ليس ضعفًا أمام الشر؛ بل سلطانٌ على كل شيء. ومن أيقن بذلك عاش مطمئنًا، يعلم أن ما كُتب له لن يُخطئه، وأن الله أرحم به من نفسه. بدلالة الآية 51 من سورة التوبة: "قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا ۚ هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ".

هكذا يخرج المؤمن من إدراكه للسحر لا خائفًا؛ بل مُستسلِمًا لله، مُعتزًا بحمايته، مُطمئنًا إلى عدله، واثقًا أن الخير الذي يريده الله له قد يأتيه حتى على أجنحة الشر بشكل آخر تمامًا.

الأكثر قراءة