المواطن ثروة وليس كُلفة

 

 

سعيد بن محمد الجحفلي

قال تعالى: "وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا" (الإسراء: 70)، والمتمعن في الآية الكريمة يعلم علم اليقين أن كل ما في الكون مسخَّر لخدمة حامل الأمانة والمكلَّف بالعبادة وعمارة الأرض، لأنه سر وجود الخلق، وهنا تتجلى مكانة الإنسان ومقامه العلي عند خالقه؛ لأنه المورد الحقيقي المتجدِّد الذي يحمي الأوطان ويصون كرامتها، فبضعفه وقلة عديده تُستباح البلدان وتُنهب ثرواتها.

وأحداث التاريخ تبرهن أن الأوطان لا يحميها ويدافع عن مكتسباتها إلا أبناؤها الشرفاء؛ فلا حلفاء حقيقيون وقت المحن والأزمات، ولا اتفاقيات أمنية تُنفذ بنودها مع الأجنبي وقت الضرورة حتى ولو صُرفت عليها المليارات؛ فهي للمناورات الحربية والتدريبات المشتركة وقت السلم والرخاء فقط. لكنها تُفعل بصرامة عندما يكون الخلاف بين الأشقاء العرب أو بين الدول الإسلامية.

إذن، العنصر البشري هو القادر على توليف عناصر التنمية وصهرها في بوتقة البناء والتطوير. فلا نهضة ولا استدامة في أي بلد في ظل وجود شريحة كبيرة من المواطنين تئن تحت خط الفقر والعوز، رغم وفرة الموارد وتعدد مصادرها.

أحيانًا يُلام المواطن الفقير ويُتهم بالتقصير لأنه لم يستطع أن يُدبِّر معيشته اليومية بنفسه! فالمتابع يعلم أن الوضع الاقتصادي المتعثر بالمديونية هو ضحية لخطط اقتصادية قاصرة، تم استنساخها من نتائج أبحاث علمية أُجريت في بلدان أخرى، لها خصوصيتها الثقافية والاقتصادية والسكانية ولم يُعَد تكييفها بالقدر المطلوب لتتجانس والواقع المعيشي للبلد. نعلم جميعًا أن الحكومة الرشيدة تخصص سنويًا ميزانيات ضخمة للخدمات الصحية والتعليمية وتطوير البنية الأساسية وغيرها من الخدمات، إضافة إلى استجابة كل أجهزة الدولة لأي طارئ قد يحدث كالأنواء المناخية والحد من مخاطر التلوث البيئي وغيرها. وما جائحة "كوفيد-19" عنا ببعيد؛ حيث بذلت الحكومة جهودًا مضنية ومقدَّرة لمحاربة الوباء والسيطرة على تداعياته الخطيرة. وهذا كله يندرج ضمن منظومة الحماية والدعم التي تُقدَّم للمواطن العُماني كونه محور التنمية وغايتها.

هنا نتدارس سويًا الملف الاقتصادي والمعيشي الذي تعاني منه شريحة كبيرة من المواطنين، حيث تزداد معاناتهم مع ارتفاع متطلبات الحياة اليومية كخدمات الطاقة رغم أننا دولة منتجة ومصدرة لها. فهذه الكلف ستكون لها تداعيات خطيرة جدًا على اللحمة الاجتماعية والنسيج الوطني إذا لم تُعالج أسبابها بطرق مبنية على استراتيجيات مدروسة ومراحل محددة نافذة، وليس بأسلوب إخماد الحرائق الذي يركز على الحلول المؤقتة ولا يعالج الأسباب الأساسية التي أدت إلى المشكلة؛ مما يؤدي إلى تكرارها مرات عديدة. فعيش المواطن لا يقل أهمية عن الملفات الخدمية التي تم التطرق إليها وعالجتها الدولة وحققت فيها نتائج مرضية.

إذن، كيف بمن حياته مرهونة بتوفر أبسط مقومات العيش الضرورية كالغذاء والمسكن وخدمات الماء والكهرباء، وقد لا تتوفر بسهولة في كل الأوقات لدى بعض الأسر؟ وهذه الضروريات لا تتم استدامتها إلا إذا توفر للإنسان المصروف الشهري المنتظم في حده الأدنى لتأمينها. فأنى للباحثين عن عمل والمسرَّحين، وممن يعيلون أسرًا وأطفالًا أن يوفروا تلك الالتزامات اليومية؟! وقد تمر على مثل هذه الفئات الشهور، وتصل أحيانًا إلى سنوات دون أن يكون لهم دخل شهري منتظم!! فكيف يعيش هؤلاء الناس؟ وكيف ترضى ضمائر أصحاب القرار أن تكون هناك فئات من المواطنين العُمانيين لا تتوفر لهم أبسط مقومات العيش الكريم في وطنهم؟ ناهيكم عن ردات فعل تلك الأسر وأطفالها عندما يرون مظاهر الرفاهية والترفيه تنتشر وتزداد في المجتمع، في حين هم لا يجدون أبسط الحقوق وهو حق المصروف أو الدخل الشهري. هذه الفئات المحتاجة من الشعب هي الخاصرة الرخوة في أي مجتمع، وقد تأتي من قبلها ما لا يُحمد عقباه، وتفسد على الجميع حياتهم، لأنها تشعر بالتهميش والغربة في وطنها.

نحن دولة متعددة الموارد وقليلة السكان، وقادرة أن تحل هذا الملف بكل سهولة إذا صُنِّف ضمن الملفات ذات الأهمية القصوى، وهو كذلك بلا شك. فكما ذكرت أن مؤسسات الدولة وأجهزتها تستنفر وتستجيب لأي طارئ يحدث في البلد؛ فحري بها أن تعتبر أن ملف الباحثين عن عمل والمسرَّحين أصبح حالة طارئة يجب أن تستجيب له الدولة وتضعه في خانة الأولويات، فلا مجال فيه للحلول الآنية القاصرة. فكل مواطن له حق العيش الكريم في بلده، وكذلك عليه واجب ملزم يؤديه تجاه وطنه. فكما يُقال: "أعطني إنسانًا يعيش بكرامة أعطيك كرامة وطن". وما زاد الطين بلة الحلول المؤقتة والمجتزأة، مثل قرار وزارة العمل الإلزامي بتعيين عُماني على السجلات التجارية، بغض النظر: هل السجل لديه أنشطة مربحة فعلًا؟ وقادرة تلك الأنشطة أن توفر رواتب للعُماني دون انقطاع، مع دفع التأمين الشهري لصندوق الحماية الاجتماعية؟! أم أن النشاط التجاري سوف يتوقف لعجزه عن الاستمرار في دفع راتب شهري للعُماني، إضافة إلى هامش من الفائدة لصاحب النشاط، لأن الأنشطة التجارية ليست جمعيات خيرية كما يعلم الجميع. والكثير من تلك الأنشطة تُدر مبالغ شهرية لبعض الأفراد أو الأسر التي لا يوجد لديها دخل آخر إلا من ذلك النشاط التجاري البسيط الذي فُرِضت عليه غرامات تحويل الأجور وتعيين مواطن عُماني، فأصبحوا مخيَّرين بين الاستمرار في العمل مع العجز المالي والغرامات المتراكمة أو التوقف والخروج من السوق بمديونية. فهذه القرارات أزَّمت سوق العمل ولم تُساهم في إيجاد أي حلول مستدامة للباحثين عن عمل.

نقول: ما هكذا تُدار الأمور. فلو ننظر إلى الشركات الكبيرة وهي معروفة، نجد أن أعدادًا كبيرة من العمالة الوافدة تعمل في القطاع المالي وتدقيق الحسابات، إضافة إلى الوظائف الفنية الأخرى، وهذه وظائف رواتبها عالية، والشباب العُمانيون المؤهلون والباحثون عن عمل قادرون على شغل تلك الوظائف بكل جدارة، وقادرون –إذا خضعوا لدورات متقدمة في القيادة الإدارية– أن يستلموا وظائف قيادية عليا في تلك الشركات الخاصة، وكذلك بعض الشركات الحكومية الخاصة بخدمات الكهرباء والمياه والاتصالات. لكن للأسف، الوافد يعمل بوظائف عالية الأجور ويتحقق له الأمان الوظيفي، وجزء من أبناء الوطن يتم دعوتهم للعمل في السجلات التجارية على رواتب ضعيفة وغير مستمرة في ظل انعدام للأمان الوظيفي الحقيقي.

الأنظار الآن متجهة إلى التوجيهات الأخيرة لسلطان البلاد المفدى –حفظه الله– التي تسعى لمعالجة هذا الملف عن طريق مضاعفة المبالغ المخصصة لدعم مبادرات وبرامج التشغيل.

لقد نشرت مقالًا لي في هذه الجريدة الغراء في مايو 2025 بعنوان "صندوق لتوظيف الأجيال" ذكرت فيه مجموعة من الحلول المستدامة لتوظيف الباحثين عن عمل، ومن خلالها يتم توفير المال دون أن تسبب أزمات مالية للدولة. فمثل تلك الأفكار وغيرها يمكن الاستئناس بها لصياغة حلول مستدامة لأزمة الباحثين عن عمل والمسرَّحين.

 

تعليق عبر الفيس بوك

الأكثر قراءة