الانفلات الرقمي وأثره على القيم والمجتمع.. مسؤولية من؟!

 

 

 

صالح بن سعيد الحمداني

 

شهد العالم خلال العقدين الأخيرين طفرة غير مسبوقة في مجال الاتصال الرقمي، فوسائل التواصل الاجتماعي أصبحت جزءًا لا يتجزأ من حياتنا اليومية؛ بل تحولت إلى منصات رئيسية للتعبير عن الرأي ونشر المعلومات، والتواصل بين الأفراد والمجتمعات، غير أن هذه الثورة الرقمية لم تخلُ من التحديات والمخاطر، لعل أبرزها تفشي المحتوى غير الهادف وغير الأخلاقي، خاصة من قبل فئة القُصَّر والشباب في ظل غياب الرقابة الأسرية والتوجيه السليم، وهذا يطرح تساؤلات جوهرية حول الأبعاد الاجتماعية والأخلاقية والشرعية والقانونية لهذه الظاهرة، وسبل مواجهتها.
فالمحتوى غير الهادف وغير الأخلاقي أصبح ظاهرة متنامية، ويُقصد بالمحتوى غير الهادف ذلك الذي يخلو من الفائدة أو الرسالة الإيجابية ويقتصر على اللهو الفارغ أو الترفيه المبالغ فيه، بينما المحتوى غير الأخلاقي يتجاوز ذلك إلى نشر ما يتنافى مع القيم الدينية والاجتماعية، سواء في الألفاظ، أو الإيحاءات، أو السلوكيات التي تُعرض أمام جمهور واسع قد يتضمن أطفالًا ومراهقين، ولعل ما يزيد من خطورة الظاهرة أن إنتاج هذا المحتوى يأتي في كثير من الأحيان من شباب وفتيات صغار السن، يسعون وراء الشهرة السريعة وجمع المتابعين، دون إدراك لعواقب ما ينشرونه، وفي غياب التوجيه الأسري والرقابة التربوية يتحول الفضاء الرقمي إلى ساحة مفتوحة لكل أنواع السلوكيات التي قد تُسيء للفرد والمجتمع على حد سواء؛ فهناك أبعاد اجتماعية منها تفكك القيم وانعكاساته على المجتمع، فأما اجتماعيًا يحمل انتشار المحتوى غير الهادف وغير الأخلاقي تداعيات خطيرة، فمنصات التواصل الاجتماعي لم تعد مجرد وسيلة للترفيه بل أصبحت أداة لصناعة الرأي العام وتشكيل الوعي الجماعي، وعندما يسود المحتوى الفارغ أو الهابط فإنه يساهم في إضعاف المنظومة القيمية للمجتمع ويشجع على تقليد سلوكيات غير لائقة، خصوصًا بين الفئات العمرية الأصغر، كما إن انتشار هذا النوع من المحتوى يُعمّق الفجوة بين الأجيال؛ إذ يرى الكبار فيه انحرافًا عن الأعراف والتقاليد، بينما يتعامل معه الشباب بوصفه حرية شخصية أو وسيلة للتسلية، والنتيجة هي تفكك في المرجعيات القيمية ما يجعل المجتمع عرضة لمزيد من الانقسام وضعف الهوية الثقافية.
وعندما نُعرِّج على البعد الأخلاقي فنجده مسؤولية الفرد تجاه مجتمعه، فمن الناحية الأخلاقية يُحمّل نشر المحتوى غير الهادف وغير الأخلاقي الفرد مسؤولية كبيرة؛ إذ لا يمكن إنكار أن منصات التواصل رغم خصوصيتها الظاهرة، تؤثر بشكل مباشر في الآخرين؛ فالفرد لم يعد معزولًا بل أصبح ما ينشره مرآة لشخصيته وانتمائه القيمي؛ بل وقدوة- سواء سلبية أو إيجابية- لمتابعيه، فالقيم الأخلاقية مثل الحياء، والاحترام، والصدق، لم تعد تُختبر في الحياة الواقعية فقط؛ بل انتقلت إلى الفضاء الافتراضي، وعندما يتجاوز الأفراد هذه القيم، وينشرون ما يتنافى معها، فإنهم لا يسيئون لأنفسهم فحسب، بل يشاركون في تآكل الضوابط الأخلاقية التي تحفظ تماسك المجتمع.
ونجد أن البعد الشرعي محاذير دينية واضحة، فمن المنظور الشرعي فإن الإسلام يحث على نشر الخير والابتعاد عن كل ما يضر بالمجتمع أو يُشيع الفاحشة بين الناس، قال تعالى في كتابه الكريم: "إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ" [النور: 19]، وهذا النص القرآني يضع ضوابط واضحة تُحرِّم نشر ما يسيء للأخلاق العامة أو يدعو للانحراف سواء في الواقع أو عبر الوسائل الحديثة، كما أن العلماء أكدوا على أن استخدام وسائل الاتصال يجب أن يكون بما يحقق النفع، ويحفظ مقاصد الشريعة في حفظ الدين، والعقل، والنسل، والعِرض، والمال، وبناء على ذلك فإن نشر محتوى غير أخلاقي يُعد تعديًا على هذه المقاصد ويقع في دائرة المحرمات التي تستوجب التوبة والرجوع إلى الله.
ولم يغفل القانون هذا الجانب، بل وضع من النظام والقواعد والمواد ما ينظم ويوضح البعد القانوني وسن القوانين التي تحمي المجتمع، ففي كثير من الدول ومنها الدول العربية وُضعت القوانين والتشريعات التي تُجرّم نشر المحتوى غير الأخلاقي أو المسيء للآداب العامة عبر الإنترنت، وتختلف العقوبات بين الغرامة والسجن وفقًا لدرجة المخالفة وخطورتها، هذه القوانين تهدف إلى حماية المجتمع من الانفلات الرقمي وضبط سلوك الأفراد في الفضاء الإلكتروني، خاصة وأن ما يُنشر على وسائل التواصل لا يبقى في إطار شخصي؛ بل يصل إلى جمهور واسع، وقد يتسبب في أضرار نفسية أو اجتماعية جسيمة، وسلطنة عُمان كان اهتمامها بهذا الجانب اهتمامًا بالغًا، وهذا ما يوضحه النظام الأساسي للدولة والتشريعات التي تناولت هذا الجانب؛ حيث صدر المرسوم السلطاني رقم (49/84) بشأن قانون المطبوعات والنشر، ثم المرسوم السلطاني رقم (58/2024) بإصدار قانون الإعلام الجديد، والذي يتضمن تشريعات تنظم المحتوى الإعلامي وتضع ضوابط واضحة للنشر بما يحفظ الأخلاق العامة والنظام العام، فقد خوّل القانون الجهات المختصة بوزارة الإعلام منع تداول أو مصادرة أي مواد إعلامية أو مطبوعات تخالف القيم الدينية أو الآداب العامة، مع توسيع إطار التنظيم في القانون الجديد ليشمل مختلف الوسائط الإعلامية الحديثة بما يضمن بيئة إعلامية مسؤولة ومتوازنة تواكب التطورات التقنية وتحافظ على الثوابت الأخلاقية للمجتمع.
يبقى الدور الأهم في مواجهة هذه الظاهرة للأسرة وأولياء الأمور؛ فالتربية الرقمية أصبحت ضرورة ملحة، إذ لم يعد كافيًا توفير الأجهزة الحديثة للأبناء؛ بل يجب غرس القيم الدينية والأخلاقية في نفوسهم، ومناقشة ما يشاهدونه وينشرونه وتوعيتهم بالعواقب القانونية والاجتماعية لأي محتوى غير مناسب؛ إذ إن المتابعة الأبوية لا تعني فرض القيود الصارمة فقط؛ بل تقتضي بناء الثقة والحوار المفتوح، حتى يدرك الأبناء أن الحرية مسؤولية، وأن ما ينشرونه يعبر عن شخصياتهم وبيئاتهم وأسرهم.
إن مواجهة المحتوى غير الهادف وغير الأخلاقي على وسائل التواصل الاجتماعي مسؤولية جماعية ومشتركة تبدأ بالفرد والأسرة وتمتد إلى المؤسسات التربوية والدينية والقانونية، فالتكنولوجيا بحد ذاتها ليست المشكلة؛ بل في كيفية استخدامها، ولذلك فإن نشر الوعي وتفعيل القوانين وتعزيز القيم الأخلاقية والدينية تمثل جميعها محاور أساسية لحماية المجتمع من الانزلاق نحو التفاهة والانحلال وضمان أن تبقى وسائل التواصل أداة للبناء لا للهدم.

الأكثر قراءة