البصل.. وأوراق الشاي!

 

 

يوسف عوض العازمي

@alzmi1969

 

"أنهوا علاقاتكم بسلام من دون فعل شيء قبيح، احترموا الأيام التي جمعتكم معًا وتلك الذكريات، كونوا لُطفاء ومُسالمين حتى النهاية"، جابرييل جارسيا ماركيز.

 

*****

لربما تقرأ هذه الكلمات ولا تعلم متى كتبتها، وهل كتبت بالقلم أو بالضغط على أزرار الكيبورد، بقلم رصاص أو أزرق سائل؟!

الأكيد أني كتبتها، وبالتأكيد تأرجحت حولها أنفاس الكتابة، ومتموضعات الفكر، وملابسات ذهن سافر إلى أبعد نقطة على وجه البسيطة، لا تحدثني عن شعور، فلم يعد في المشاعر شعور، ولا بالأنفاس نفس، للتأكيد مرة أخرى أؤكد لك أنني أكتب بلا تخطيط مسبق أو ترصد لفكرة الكتابة، فقط أرغب بالكتابة، أستعير نفس الكتابة من مشاعر كاتب قرر التوقف عن الكتابة، رغم أنه يكتب لك الآن إن كنت تقرأ ما يُكتب.

سأصارحك يا صديق القلم ومرافق الفكر، ثمة أفكار تتسلل بين جوارحي، هل تعلم بأني تمنيت كتابة كتاب كامل لا يضم سوى خواطر ووجدانيات، بلا سياسة لا تعرف إلا القوة، أو اقتصاد خاص فقط للأسماك الكبيرة، أو تاريخ قد لا يكتبه سوى البعض من المُزوِّرين.

على ذكر الكتابة والكتاب، فكرت قبل فترة وجيزة بأن أنشر كتابًا يضم بعض المقالات، وكانت مسيرة التفكير والسعي فاشلة، مالك بالطويلة كما يقال، لكن الوضع لم يكن مرضيًا لكاتب أفنى عددًا من أوقاته (التي ليست ثمينة بالتأكيد) في كتابة مقالات ظننتها تعبًا ذهنيًا، وسعيًا وراء مصادر ومراجع للتأكد من حقيقة وصدق المعلومات الواردة في المقال (أقصد أي مقال أكتبه)، بعدها قررت وبوعي تام وقناعة راسخة بأن أغبى شيء ممكن أن يقوم به كاتب المقالات هو أن يطلب أو يسعى لدى دور النشر ليصدروا له كتابًا يضم مقالاته.

صدقني يا صديقي علينا الاقتناع بأننا في وقت يقدر التغريدة ذات المائة والأربعين حرفًا على مقال متعوب عليه ورصين يضم أربعمائة كلمة أو أكثر، هل في الأمر ما يُقلق؟ بالتأكيد لا، لا تنسى أنك لو تُخيِّرني بين تناول الطعام في مطعم فاخر وذي ديكورات فخمة، أو سندويشة ومشروب غازي من مطعم قديم يقع على ناصية بنصف البلد، لاخترت السندويشة والمشروب وبلا تفكير!

يا صديقي دعك من دور النشر والسندويشات، هل تعلم بأنه حتى المستشفيات التجارية الكبرى أصبحت تُنشئ عيادات صغيرة للعلاج السريع، وممكن أن تجد المرضى يتجهون إليها أكثر من المستشفى الرئيسي، الناس يا صديقي أصبحت تفضل الأسرع، والمختصر، ناس على قاعدة: خلصني بسرعة.

هل ما سبق هو تشاؤم، هو عتاب على الوضع، هو فضفضة وشكوى؟

لا والله، إنما هو تشخيص لما أراه بدون إشادة أو ذم، فقط وصف للواقع، وخلينا في الواقع.

على فكرة وممكن تبتسم- أدامَ اللهُ ابتسامتك- هل تعلم بأني سأرسل هذا المقال، ولا أعلم مصيره، هل سينشر على صفحات الصحيفة أو يذهب لسلة المهملات!

لا يتملكك الضيق يا صديقي؛ فالدنيا بخير، فلا يزال الشاي يُزرع في سيريلانكا، والموز يأتينا من الفلبين، والسيارات الصينية تكاد تسيطر على المبيعات، ومطاعم شعبية أصبحت تنافس مطاعم عالمية، والدنيا بخير لا تكتئب.

قبل أيام كنت في جلسة مع عدد من الأصدقاء، وكان الحديث يتمحور حول عدد من قضايا الساعة كأخبار الدوري الإسباني، وصفقات بيع اللاعبين الضخمة، وهذا الحديث ضايق أحد الجالسين فطلب منا تغيير الحوار لمواضيع فيها فائدة، ولم يكن هناك حديث مفيد أكثر من البصل!

تحدثنا حول البصل وهمومه؛ فالبصل نعم هو من أهم مكونات الطبخ وإعداد الوجبات، لكنه يا صديقي ذو رائحة نفّاذه، حتى كريمات تخفيف الرائحة تعجز عن مواجهة قوة الرائحة البصلية، وهناك من يعتقد أن البصل فيه علاج لأنواع من الأنفلونزا. ومن أطرف ما سمعت في حوار البصل، أن البصل- الذي يوضع أحيانًا مقليًا كشرائح زينة فوق طبخة الأرز- كان أحدهم يطبخ للعائلة في إحدى السفرات فلم يجد البصل لينثره فوق الأرز، فعمد إلى استخدام أوراق الشاي الرفيعة وبطريقة ما تفنن بها، ونثرها فوق الأرز، وجاء الجماعة ليتناولوا الوجبة اللذيذة، وسارت الأمور على ما يرام، ولم يشعر أحد بوجود أوراق الشاي، التي تم وضعها في مكان البصل المقلي، وعلى طريقة الفيلم العربي: "لا من شاف ولا من دِرِي".

وبعدها بيوم أثنى الجماعة على الطبخة الشهية، ففاجأهم الأخ الكريم بأن الحشو (تزيين الطبق) هو في الحقيقة أوراق شاي ولا تقرب للبصل لا من قريب ولا بعيد، ودائمًا لا يَعرف سر الطبخة إلّا الطبَّاخ، وكم من بهارات وضعها الطباخون حسبها الضيوف بصلًا وهي في الحقيقة أوراق شاي!

فكر في أحداث الدنيا، كم من حدث وضعت في تفاصيله أوراق شاي رفيعة، وتم اعتمادها كبصل مقلي شهي؛ بل وتمت الإشادة بالطبخة، ولذاذتها، وحُسن تقديمها.

وقبل إرسال هذه الكلمات، سألت أحد الإخوة العرب: ما رأيك في نشر كتابات قديمة، رد بابتسامة ذات معنى: قُل للزمان ارجع يا زمان!

الأكثر قراءة