بدر بن خميس الظفري
@waladjameel
اللغة أيها القارئ الكريم هي الروح التي تسري في جسد الأمة، وهي الوعاء الذي يحمل فكرها وضميرها، ويجمع بين حاضرها وماضيها، ويصوغ شخصيتها في معترك الحضارات. بها تحفظ الأمم كرامتها، وفيها يتجسد وعيها، ومن خلالها يسطع تاريخها. هي السور المنيع الذي يصد الغزو، وهي الرابط الذي يشدّ الأجيال بعضها إلى بعض، فإذا قوي عودها استقامت الأمة، وإذا ضعف شأنها تهاوى البنيان كله.
وقد شهدت أمم الأرض أن التعليم بغير اللغة القومية ضرب من العبث. ففي محاضرة ألقاها الدكتور إسحاق الفرحان، عضو مجمع اللغة العربية الأردني، روى أنه كان مع وزير التربية في حفل أقامته السفارة الكورية في عمّان، فسأل الوزيرُ السفيرَ الكوري: بأي لغة تدرّسون الطب والهندسة في بلادكم؟ فأجابه السفير بدهشة: "بالكورية طبعًا!". تلك الدهشة تكشف عن بديهية لا يختلف عليها أحد، وهي أن العلم لا يعيش إلا في لغة الأمة التي تحمله.
وليس بعيدًا عن هذا ما أكده غاندي عام 1920 حين جعل قضية اللغة الوطنية رمزًا للتحرر السياسي، وقال إن اعتماد الإنجليزية في الهند حرم الأجيال من تراكم خبراتها بلغة وطنية، وضرب المثل باليابان التي لم تسمح للغات الأجنبية أن تزاحم لغتها، فترجمت العلوم الغربية وخلقت نهضتها بلغةٍ يابانية خالصة. وفي الاتجاه نفسه يشير تقرير صادر عن المجلس القومي للثقافة والفنون والآداب عام 2004 إلى أن اليابان حققت قفزتها الصناعية لأنها وضعت أحدث النظريات الأمريكية والأوروبية بين أيدي عمالها بلغتهم الأم.
وفي عالمنا العربي، فقد تكرَّس وضع غريب أعمى عنه طول الألفة؛ حيث أشار الدكتور زكي نجيب محمود إلى "عمى الإلف" الذي يجعل الناس لا يرون في الغريب غرابته، وهو ما أصابنا حين ألفنا تدريس علومنا بالإنجليزية. حتى إن بعض الأطباء، مثل الدكتور نادر عبد الدايم، وصف دعوة تعريب الطب بأنها كارثة، وكأن استبدال كلمة Heart بـ"قلب" يهدد حياة المريض. والحقيقة أن الكارثة كامنة في هذا الاغتراب اللغوي ذاته.
من الوجهة القومية، نبّه الدكتور كمال بشر في كتابه "قضية اللغة في التعليم" إلى أن تفضيل اللغات الأجنبية على العربية تقليل من شأنها وإضعاف لمكانتها، مما يفضي إلى جو علمي فاقد الهوية، لا ينتمي إلى العروبة ولا يستقر في غيرها. وأكّد الدكتور محمود فوزي المناوي في كتابه "في التعريب والتغريب" أن التعليم الأجنبي يزيد من اغتراب الشباب ويضعف انتماءهم، في وقت يحتاجون فيه إلى الثقة والاعتزاز بالذات. وقد سبقه إلى هذا ابن حزم في كتابه "الإحكام" حين قال إن ذهاب اللغة يكون سببًا لذهاب الدولة، وأكّد ابن خلدون في المقدمة أن العربية زالت من بلاد العراق وما وراءها حين ضعف شأن الدين، بينما بقيت في مصر والشام لبقاء طلبة القرآن.
ومن الوجهة العلمية، فإن العقل لا يفهم على وجه التمام إلا بلغته التي صيغت بها مقولاته. وقد أبدى روجر بيكون، الفيلسوف الإنجليزي في القرن الثالث عشر، دهشته ممن يريد أن يتبحّر في الفلسفة وهو لا يعرف العربية، وأشار كلوت بك، الطبيب الفرنسي الذي عمل في مصر في القرن التاسع عشر، في تقاريره عن التعليم في مصر إلى أن التدريس بلغة أجنبية لا يوطّن العلم ولا يشيع نفعه. وأوصى خبراء اليونسكو في تقاريرهم بأن تكون المراحل الأولى من التعليم، بل والجامعية، باللغة الوطنية، لأنها الأقدر على توطيد الفهم وتنمية التفكير النقدي.
ويشهد بذلك ما رواه الدكتور عبد الملك عبد الرحمن أبو عوف عن تجربته في جامعة دمشق حين انتدب لتدريس الكيمياء العضوية بالعربية، فاكتشف أن نتائج الطلاب كانت أعمق وأفضل من زملائهم في القاهرة الذين يدرسون بالإنجليزية، لأن جهدهم تركز في العلم ذاته لا في فك رموز لغة غريبة. وقد ذكرت الأستاذة مديحة دوس، أستاذة اللغة الفرنسية في جامعة القاهرة، في إحدى دراساتها أن الطفل حين يتلقى العلوم بلغة لا يتقنها لا يجد أمامه سوى الحفظ الآلي، وهو ما يميت ملكة النقد والتحليل ويحبس العقل في دائرة التلقين.
ومن الوجهة اللغوية، حدّثنا الدكتور خليل النعيمي في كتابه "اللغة والطب" عن أثر المصطلح العربي على وعي الطالب والطبيب، ورأى أن "القرحة" بالعربية أقرب إلى المريض والطبيب من Ulcer، وأن "الأبهر" أصدق تعبيرًا من (Aorta) وأكد أن لغة الدراسة إذا اتحدت مع لغة الممارسة أغنت الطبيب العربي وفتحت له أبواب الفهم والإبداع. وقد قال شبلي شميل في مؤلفاته إن حياة اللغة رهينة بعلوم الأمة وصناعاتها، فإذا هجرت الأمة علومها هجرت لغتها الحياة. ثم جاء سلامة موسى في كتابه اللغة والإنسان ليؤكد أن المصطلحات العلمية في جوهرها غريبة في كل اللغات، وأن الواجب أن تُطوَّع في القوالب العربية لتصبح مألوفة في ألسنة العلماء.
أما من الوجهة النفسية والاجتماعية، فقد ندد دانتي في كتابه المأدبة بالذين يحتقرون لغتهم ويتفاخرون بلغة غيرهم، وعدّ ذلك وهنًا للروح وعمى للفكر. وأكد الدكتور أحمد شفيق الخطيب في بحثه الذي عرضه أمام مجمع اللغة العربية عام 1994 أن اتهام العربية بالعجز ليس إلا انعكاسًا لعجز أهلها. وقد لخّص حسين أحمد أمين المأساة بقوله إن الشباب العربي، بانقطاعه عن لغته، صار يتعامل معها كأثر تاريخي لا كوسيلة حياة.
أيها القارئ الكريم، إن قضية اللغة ليست دعوة إلى انغلاق ولا انصرافًا عن العالم، وإنما هي تأسيس للذات من الداخل، وانطلاق منها إلى الآفاق. واللغة العربية هي جوهر الكائن العربي، وقصورنا في ممارستها جعلها تبدو مستودع ألفاظ بدل أن تكون أداة إبداع. فإذا استعدناها إلى مكانها الطبيعي، عادت إلينا هويةً ووعيًا وأفقًا. إنها حصن البقاء ووعاء الفكر، ومفتاح النهضة المقبلة.