أ.د. حيدر بن أحمد اللواتي **
يُشير الكاتبان رايان تي كراجون، وجيزي إم سميث (Ryan T. Cragun وJesse M. Smith) إلى أن الدين أدّى دورًا مُهمًا في حياة الشعب الأمريكي، وترسَّخت أهميته بصورة أكبر في الحرب الباردة بين الولايات المتحدة الأمريكية وبين الاتحاد السوفيتي؛ حيث ارتبط الإلحاد بالفكر الشيوعي، ولذا ركَّز السياسيون الأمريكيون على مسألة الدين؛ ففي تلك الفترة أُضيف شعار "نثق في الله" إلى العملة الأمريكية وعبارة "تحت راية الله" إلى قسم الولاء.
ولذا خضع أثر الدين والتدين لعدد كبير من الدراسات التي حاولت الكشف عن العلاقة بين الدين وبين صحة الإنسان وطول العمر، ومن هذه الدراسات "دراسة هارفارد الطويلة الأمد عن النمو البشري" والتي تحدثنا عنها سابقا في مقالين منفصلين. وسنتحدث في الجزء الثالث من سلسلة المقالات، عن ما أشار اليه الباحثون حول أثر الدين في صحة الإنسان وطول العمر.
فَصَلَ الباحث الرئيسي جورج إي فايلانت (George E. Vaillant) بين البُعد الروحي الذي ربطه بالعواطف الإيجابية كالحب والرحمة والتسامح والشكر والامتنان والاتصال الروحي بشيء أعظم، وبين مفهوم الدين؛ فالدين يحتوي على البُعد الروحي إلّا أنه في بعض الأحيان يكون مصدرا للاستبداد والتعصب، كما إنه يحتوي على ممارسات منظمة من الطقوس، ويوفر الدين هيكلا اجتماعيا وهوية في الحياة لا سيما في مراحلها الأولى، وقد لاحظ الباحث أن الناس يميلون أكثر في الشيخوخة إلى الروحانية وتجاوز العقائد المرتبطة بالدين، وأوضح الباحث أن الإيمان لا يزيد بالضرورة مع العمر، بل إن كثيرا من الأفراد المسنين خصوصًا ذوي الصحة القوية والدعم الاجتماعي، يبتعدون غالبًا عن الدين المنظم.
ومن الأمور التي سلط الباحثون عليها تركيزهم أثر الدين على الصحة وطول العمر، وقد تم الاعتماد على عينة من الرجال الذين درسوا في جامعة هارفارد، فهذه العينة متجانسة اجتماعيا واقتصاديا، ولكن هناك تباين واضح في توجهاتهم الدينية وعاداتهم الصحية، ولكن جميعهم لهم قدرة على الحصول على الرعاية الصحية اللازمة، وقد تم جمع البيانات الخاصة بالمشاركين وتبين أن 90 رجلًا منهم كانوا أقرب إلى الإلحاد، بينما تم وصف 48 رجلًا منهم بأنهم مؤمنين بشدة.
كما إن الباحثين في علاقة الدين وأثره على الصحة، حاولوا الفصل بين أمرين مهمين، الأول السلوك الشخصي والاجتماعي الناشئ عن الدين، كالابتعاد عن شرب الكحول وتناول المخدرات على سبيل المثال، وبين أثر العقيدة الدينية، مثل الإيمان بوجود الله تعالى على الصحة وطول العمر.
وقد كانت النتائج بالنسبة لطول العمر متطابقة، فلقد توفي ما نسبته 70% من الأشخاص الذين صُنِّفُوا بأنهم قريبين من الإلحاد، وتوفي ما نسبته 75% من الأشخاص الذين صُنِّفوا بأنهم مؤمنين بشدة، ومن هنا فلقد أشار الباحثون إلى أن العلاقة الطردية الملحوظة بين الدين والصحة، إنما هي نتيجة للممارسات الدينية؛ فالمجتمعات المتدينة عمومًا توفِّر حماية اجتماعية أكبر وتساعد أكثر عن الامتناع عن تعاطي الكحول، وليس الأثر هو للعقيدة الايمانية بحد ذاتها.
وهذه النتيجة التي توصَّل لها الباحثون تكاد تطابق ما توصل اليه باحثون آخرون في دراسة طويلة أخرى، وتعرف بدراسة "تيرمان لطول العمر"، وهي من أقدم الدراسات؛ حيث بدأت عام 1921، وتتبعت مجموعة من الأطفال الموهوبين لمعرفة كيف تطورت حياتهم على مدى عقود من الزمن. وأشارت هذه الدراسة إلى أن الأثر الصحي للدين يبدوا أكثر وضوحًا على النساء. وأبرزت الدراسة ظاهرة أخرى لها أهمية كبيرة في أيامنا هذه، وهي الاستماع إلى المحاضرات والخطب الدينية من خلال وسائل التواصل الاجتماعي؛ حيث أكدت الدراسة أن الأثر المُترتِّب لا يمكن مقارنته بالأثر المترتب من المشاركة والحضور في النشاط الديني؛ إذ يفتقد الأول إلى بُعد مُهم جدًا وهو التواصل الاجتماعي والذي له أثر بالغ على الصحة. ومن النتائج اللافتة التي توصلت له هذه الدراسة الأخيرة، أن أهمية العلاقات الاجتماعية في الوسط الديني لا بسبب الدعم الكبير الذي تقدمه المجتمعات الدينية لأفرادها؛ بل إن السبب يكمُن فيما يقدمه الفرد من خدمات للمجتمع ومساعدة لأفراده والنصح والرعاية لهم، فما يقدمه الفرد من عطاء للمجتمع يعود بالنفع عليه ويؤثر بشكل كبير على صحته؛ بل وعلى طول عمره.
وإذا كان البُعد الاجتماعي والسلوك الديني هما العاملان المؤثران على صحة الإنسان وطول عمره، فهل للإيمان -كالإيمان بوجود الله- أثر على صحة الإنسان وطول عمره؟
واتضح للباحثين في دراسة هارفارد أن أثر الايمان غدا واضحًا تمامًا عند الرجال الذين تعرضوا لحياة بائسة وظروف صعبة، فمن 10 من الذين تم تصنيفهم بأنهم "لا أدريين"، وعاشوا حياة صعبة، عاش واحد منهم فقط لسن الخامسة والثمانين، وبالمقابل فإن من المتدينين بشدة تعرَّض 15 لظروف حياتية بائسة، ظل 9 من هؤلاء أحياء حتى تجاوزوا الخامسة والثمانين، وهذا ما حدا للباحثين القول بأن الدين يبقى أحد أهم وأعظم مصادر الراحة والطمأنينة عند البشرية.
كما اتضح للباحثين ارتباط الاكتئاب والظروف الحياتية الصعبة والعسيرة بزيادة المشاركة بالنشاط الديني، كما لوحظ أن الاكتئاب والظروف الحياتية الصعبة والعسيرة ارتبطا أيضًا بزيادة عدد الزيارات إلى الطبيب النفسي، لكن لم يلاحظ وجود رابط بين عدد الزيارات للطبيب النفسي وبين زيادة المشاركة في النشاط الديني وكأن كليهما يعكس وسائل مختلفة تعامل بها الرجال مع صعوبات الضغوط النفسية.
وللحديث بقية...
** كلية العلوم، جامعة السلطان قابوس