الحصار كسلاح.. بين السياسة والإنسانية

 

 

نور بنت محمد الشحرية

الحصار في الحروب ليس مجرد إجراء عسكري، بل هو سلاح يوجّه إلى قلب الإنسان.

إنه جريمة بطيئة، تُمارس ضد أبسط حقوق البشر: الحق في الغذاء والماء والدواء.

وحين يتحول الخبز إلى ورقة ضغط، وحين يُمنع الحليب عن الأطفال باعتباره تهديدًا، ندرك أننا نعيش في عالم فقد الكثير من إنسانيته.

في اليمن، يعيش أكثر من 30 مليون إنسان مأساة ممتدة منذ عام 2015. الحصار على الموانئ والمطارات جعل الغذاء والدواء عملة نادرة، وأدى إلى وفاة مئات الآلاف جوعًا ومرضًا.

الأمم المتحدة وصفت الوضع بأنه أسوأ أزمة إنسانية في العالم. لكن الحقيقة الأعمق أن هذا الحصار لم يكن ليستمر لولا الغطاء السياسي والعسكري الذي وفرته الولايات المتحدة لحلفائها، فبصفقات سلاحها ودعمها في مجلس الأمن، أُعطي الحصار شرعية زائفة أطالت معاناة المدنيين.

أما في غزة، فالقصة أكثر قسوة من حيث التركيز والزمن. ومنذ 2007، يعيش أكثر من مليوني إنسان في حصار خانق حول القطاع إلى سجن مفتوح. وخلال الأعوام الأخيرة، بلغ العنف ذروته، إذ قُتل أكثر من 40 ألف شخص في أقل من عامين، ومئات ماتوا جوعًا تحت أنظار العالم.

الدعم الأمريكي لإسرائيل جعلها محصنة ضد أي محاسبة، فيما أسقط الفيتو الأمريكي في مجلس الأمن كل قرار يسعى لإنهاء المأساة.

الجوع ليس مجرد غياب للطعام، إنه ألم جسدي ونفسي.

الإنسان الجائع يفقد قوته، ينهار جهازه المناعي، ويعاني من دوار وألم مستمر.

أما نفسيًا؛ فالجوع يسلب الكرامة ويزرع اليأس، ويحوّل حياة الإنسان إلى صراع مرير من أجل البقاء. حين يصرخ طفل طلبًا لجرعة حليب ولا يجدها، وحين تعجز أم عن إطعام صغيرها، فإننا أمام جريمة لا يمكن تبريرها بأي حساب سياسي.

إن الذين يستخدمون التجويع كسلاح فقدوا إنسانيتهم، يتعاملون مع المدنيين كأرقام، ويرون الأطفال والنساء مجرد وسيلة ضغط على الخصوم.

هذا ليس "ذكاءً استراتيجيًا"؛ بل تجريد كامل من الضمير، وانحدار إلى هاوية قانون الغاب.

ورغم وجود جمعيات وهيئات حقوقية، فإنها عاجزة عن تغيير الواقع ما دام القرار الدولي محتجزًا بيد القوى الكبرى. وفي كل مرة يُطرح قرار لإنهاء الحصار، يقف الفيتو الأمريكي سدًا منيعًا، لتبقى الشرعية الدولية بلا روح. وهكذا تتحول المؤسسات الأممية إلى شهود عاجزين، فيما يموت الأبرياء ببطء.

لكن الشر ليس من الشعوب.

الأمريكي العادي، مثل اليمني والفلسطيني، يريد أن يعيش بسلام. المشكلة في الساسة الذين جعلوا من الحصار ورقة تفاوض، ومن الحرب تجارة. هؤلاء الساسة لا يتراجعون إلا حين يواجهون ضغطًا شعبيًا يربط بين معاناة الخارج ومعاناة الداخل. والتاريخ يقدم دروسًا.

في حرب فيتنام، لم تُجبر أمريكا على الانسحاب فقط بالهزيمة العسكرية، بل بضغط الشعب الذي ملّ رؤية أبنائه يُقتلون في حرب لا معنى لها.

اليوم، يمكن أن يتكرر المشهد إذا أدرك الشعب الأمريكي أن ضرائبه تُستنزف في الحروب بينما تعاني بلاده من الفقر والديون ونقص الخدمات.

التغيير ممكن حين تتلاقى الأصوات: أصوات المظلومين في اليمن وغزة، مع أصوات الأحرار في أمريكا نفسها. حينها فقط، يمكن أن يتحول الحصار من جريمة مستمرة إلى جرس إنذار يوقظ الضمير العالمي.

إنها دعوة للإنسانية: أن نتذكر أن الخبز ليس تهديدًا، وأن الحليب للأطفال ليس سلاحًا، وأن تجويع إنسان واحد هو طعنة في قلب العدالة التي يفتخر بها العالم الحر.

تعليق عبر الفيس بوك

الأكثر قراءة