قُل لي: من تجالس؟!

 

 

 

ريم الحامدية

reem@alroya.info

 

الحياة ليست مجرد مسيرة فردية، بل شبكة من العلاقات التي نختارها أو تمر بنا أفكارنا، مشاعرنا، وحتى طموحاتنا تتشكل وتتأثر بمن نجالس، ومن نتابعهم على وسائل التواصل، فالرفيق ليس مجرد شخص نقابله صدفة، بل هو مرآتنا الحقيقية، يعكس أفكارنا ويؤثر في رؤيتنا للعالم، وفي الطريقة التي نشعر بها ونتفاعل بها مع كل يوم.

قل لي من تصاحب أقل لك من أنت! فمن تختاره صديقًا سيكون نافذة على عالمه الداخلي، ومرآة لأفكاره، ونبراسًا يضيء طريقك أو يثقل كاهلك. المصادقة مع شخص ناضج تشبه امتلاك كتاب عميق؛ حديثه ثري، روحه غنية، وكل كلمة منه تزيدك فهمًا وإدراكًا، بينما مخالطة الواعيين هي معافاة للعقل، تنقي روحك من الضبابية، وتجعلك ترى الحياة بوضوح أكبر.

أما من تختارهم من حولك، فليكن اختيارك واعيًا لا عشوائيًا. اجلس مع من يرفع همتك ويحفز طموحك، مع من تتدفق حوله الطاقة الإيجابية فتشعر وكأنك تحلق، فالذي يتصف بالخلق يترك أثره على سلوكك، والذي همته عالية يرفع سقف طموحاتك، ويعلمك أن العالم أوسع مما تتصور، وأن النجاح ليس حلمًا بعيدًا؛ بل مسارًا يُبنى خطوة بخطوة.

وفي علم النفس الاجتماعي، هناك مفهوم يعرف بـ"العدوى العاطفية" وهو انتقال المشاعر والأفكار من شخص لآخر عبر الصوت ولغة الجسد وحتى الصمت. كل كلمة تسمعها، وكل نظرة تتلقاها، وكل صمت يُحاط بك، يحمل في طياته شعورًا أو فكرة تنتقل إليك دون أن تدري لذلك، انتق جلاسك كما تنتقي غذاءك كل لقاء يترك أثرًا، وكل حديث يزرع شعورًا، وكل صمت له صدى في أعماقك.

ولا تستهين بأهمية محيطك، ولا تقلل من شأن من يحيط بك، حتى لو بدا الأمر صغيرًا أو عابرًا. اختر من يجعل الراحة تتجلى على وجهك، ومن ينشر الطمأنينة في قلبك، ومن يحفزك على التفكير، حتى في أصعب الأوقات. فحتى لو كان محيطك مليئًا بالضيق والتعب، فإن وجود شخص يحفزك ويشدك للأمام يحدث فرقًا هائلًا، يجعل الصعاب أقل وطأة، ويحول الضيق إلى فرصة للتعلم.

وفي حديث شريف قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: "المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل"، فلينظر كل واحد منا بمن يختار أن يقضي وقته، فلعل تلك الساعات الصغيرة التي نقضيها مع الآخرين تصنع فارقًا كبيرًا في حياتنا، وتترك بصمة دائمة على شخصيتنا وأرواحنا، إن اختيار الجليس بعناية ليس ترفًا؛ بل ضرورة للحياة.

اجعل انتقاء الجلساء فنًا تمارسه بعناية ووعي، اجلس مع من يرفعك، ويسعدك، ويجعل من كل لحظة درسًا، ومن كل كلمة أثرًا يظل معك، لا تضيع عمرك مع من يثقل كاهلك، أو يطفئ بريقك، أو يقلل من طاقتك. أما من يختارون الحكمة والسعادة والمعرفة، فهم يفتحون أمامك أبوابًا لا تُحصى من النمو، ويعلمونك أن الرفقة الصالحة ليست مجرد رفاهية، بل ركيزة أساسية للروح، وقوة خفية تحركك نحو الأفضل دائمًا.

وفي نهاية المطاف نحن لسنا إلا حصيلة من نُجالس ونخالل، فما أجمل أن نصنع لأنفسنا بيئة تُشبه أحلامنا لا أوجاعنا. انتقِ جلاسك، فالجليس الصالح ليس مجرد رفيق، بل هو حياة تُزهر داخلك، وسند يُعينك، ونور يضيء عتمتك، اجعل من اختيارك لهم رسالة واضحة للعالم: أنا حيث أكون، ومن أجالس هو أنا.

الحياة قصيرة، والوقت يمضي بلا عودة، والروح تتشكل بما تُخالط. فاختر بعناية من يجلس جوارك، لأنهم إما أن يصنعوا لك جناحين، أو يثقلوا كاهلك بالقيود. واعلم أن جليسك اليوم هو ملامحك غدًا، فإن شئت رفعةً فاجلس مع أهل الرفعة، وإن شئت سقوطًا فاجلس حيث يسقطون. القرار بين يديك.

الأكثر قراءة