جمال بن ماجد الكندي
عادةً، المعادلات التي تتكوّن من شِقَّين ينتج عنها إرضاء طرفين. وكما تعلّمنا في الكيمياء، فإن للمعادلات عنصريْن ينتج عنهما عنصر يتّفق عليه من أدخل المعادلة.
اليوم، نحن أمام معادلة غريبة يحاول حلفاء إسرائيل في المنطقة تسويقها، وهي نزع سلاح المقاومة في فلسطين ولبنان وسوريا، وفي أي بقعة يُصوَّب فيها هذا السلاح من أجل تحرير الأرض من المحتلّ الصهيوني في وطننا العربي.
ويقابل الشقّ الثاني من هذه المعادلة الصهيو-أمريكية ما يسمّى بـ"استقرار المنطقة"، مع وجود أوهام "إسرائيل الكبرى" التي يحلم بها نتنياهو وصرّح بها مؤخرًا، والتي تضمّ أجزاءً كبيرة من جوار إسرائيل الجغرافي؛ فهل هذه المعادلة قابلة للتطبيق على الأرض؟!
هذا السؤال هو محور كل النقاشات في الساحات الإعلامية والسياسية هذه الأيام، وسوف تُكذِّب أو تُصدِّق هذه المعادلة معادلةٌ أخرى، يتمّ تطبيقها ميدانيًا من قِبل مَن يُحاربون من أجل تحرير الأرض من المحتلّ الإسرائيلي. وهناك سؤال جوهريّ يستحقّ الإجابة عنه: لماذا الآن المُطالبة بنزع سلاح المقاومة في المنطقة؟! حيث لم يكن هذا مطلبًا أساسيًا في كل المفاوضات السابقة، ولا شرطًا من شروط وقف إطلاق النار. وللإجابة عن هذا السؤال، لا بُد لنا أن نرجع إلى تاريخ معركة "طوفان الأقصى" في السابع من أكتوبر 2023، يوم بدأت المعركة التي لم يتوقّعها العدو الإسرائيلي، بغضّ النظر عن بعض المحلّلين الذين يرون أن "طوفان الأقصى" ذريعة سَمح بوقوعها الكيانُ الصهيوني من أجل تنفيذ مخطّط لتغيير المنطقة وشنّ حرب شاملة، وهي تبقى فرضية وليست تأكيدًا. نحن هنا أمام معركة ليست بالعادية، إنها معركة غيّرت سيناريوهات الصراع مع إسرائيل، وحققت ميدانيًا مصطلح "وحدة الساحات" ضد المحتل الإسرائيلي؛ بمشاركة لبنانية ويمنية وعراقية في هذه المواجهة، وبعدها دخول دولة بثقلها الاستراتيجي في المواجهة مع إسرائيل، وهي إيران، من خلال "الوعد الصادق 1 و2 و3". وعندما نتكلم عن هذه الدول غير إيران، فإننا نقصد فصائل المقاومة فيها، وليس كيان الدولة الرسمي.
معركة "طوفان الأقصى" أربَكت المخطّط التطبيعي مع العدو الإسرائيلي من قِبل مهندسي التطبيع في المنطقة، فخلطت الأوراق وأجّلت إعلان المشروع.
ولكننا ما زلنا لم نجب عن السؤال المحوري: لماذا الآن الإصرار على مطلب نزع سلاح المقاومة في لبنان وفلسطين؟! الجواب يكمن فيما جرى خلال معركة "طوفان الأقصى"، من تطورات عسكرية وسياسية؛ حيث ترى إسرائيل وحلفاؤها في المنطقة أن هناك نصرًا قد تحقق في غزة ولبنان وسوريا، نصرٌ من وجهة نظرهم فقط، وهو ما يُستخدَم اليوم كأداة ضغط على قوى المقاومة في لبنان وفلسطين.
ففي لبنان، يتمثل "النصر" -بحسب الرواية الإسرائيلية- في اغتيال السيد حسن نصر الله وكبار القادة السياسيين والعسكريين، وتدمير 80% من القدرة الصاروخية للمقاومة اللبنانية. وفي غزة: التدمير والتجويع. وفي سوريا: سقوط النظام السابق. ويُعد هذا "نصرًا"، كما يراه المُتابِع لمجريات الصراع مع العدو الصهيوني؛ حيث استفاد الأخير عسكريًا وسياسيًا من خلال سيطرته على جبل الشيخ الاستراتيجي، وعلى المحافظات الجنوبية المجاورة لإسرائيل (القنيطرة، ودرعا، والسويداء). وأقصد بالسيطرة هنا: القدرة على الدخول إلى تلك المناطق في أي وقت، من دون مقاومة تُذكَر.
أما سياسيًا، فقد تمكّن الاحتلال من فرض الأجندة الإسرائيلية في سوريا، عبر استغلال المُكوِّن الدرزي، وهو أمر كان مُحرَّمًا ويُعدّ ضمن "الخطوط الحمراء" لدى الحكومة السورية السابقة قبل سقوط نظام بشار الأسد.
ما حصل في غزة ولبنان، هو ما يحتاج إلى نقاش. وقبل الدخول في التفاصيل، نودّ التذكير بأنّ إسرائيل، منذ السابع من أكتوبر 2023، فتحت عدّة جبهات قتال في المنطقة. وأولى هذه الجبهات كانت جبهة غزة، تلتها جبهة لبنان، ثم اليمن، وبعدها إيران، وأحيانًا سوريا بشكل مباشر أو غير مباشر. والسؤال هنا: هل حققت إسرائيل نصرًا واضحًا في هذه الجبهات التي فتحتها (باستثناء الجبهة السورية)؟ بمعنى: هل أصبحت في مأمن من أي استهداف قد يطال الداخل الإسرائيلي أو جنودها في غزة؟ وهل ما زالت لديها مخططات توسّعية في المنطقة؟ الجواب عن السؤال الأول: قطعًا لا، والميدان العسكري شاهد على ذلك. والجواب عن السؤال الثاني: قطعًا نعم. فلماذا نُسلِّم السلاح إذن؟!
ورقة المبعوث الأمريكي إلى لبنان توم براك، تطالب الحكومة اللبنانية بنزع سلاح المقاومة اللبنانية أو حصره، رغم أن هذا الشرط لم يكن ضمن الأولويات في مفاوضات وقف إطلاق النار السابقة. وقد أصبح هذا الشرط يُتداول سياسيًا وإعلاميًا بشكل كبير بعد اغتيال السيد حسن نصر الله؛ إذ يَعتقد من يُقاتل المقاومة اللبنانية عسكريًا، وسياسيًا، وإعلاميًا، بأنّ قوتها قد ضعُفت بعد اغتيال كبار القادة السياسيين والعسكريين، وأنّ الوقت قد حان لنزع هذا السلاح، الذي يُقاتل إسرائيل ويدافع عن الأرض اللبنانية منذ تأسيس الحزب عام 1982.
هذا السلاح، الذي يُعكِّر مزاج بعض القوى السياسية اللبنانية ويُقلِق منامها، هو ذاته الذي حقّق نصر التحرير عام 2000، ونصر المعادلة العسكرية عام 2006، ثم تحوّل إلى معادلة الردع العسكري، التي خلقت توازنًا بين المحتل والمقاومة اللبنانية.
هذه المعطيات التاريخية هي ثمرة هذا السلاح. واليوم، يربط الإسرائيلي ما يُسمّيه "نصرًا" باغتيال شخصيات سياسية وعسكرية فاعلة في المقاومة اللبنانية، وعلى رأسها السيد الشهيد حسن نصر الله، ظنًّا منه أن هذا النصر، من وجهة نظره، سيجبر القيادة الحالية -وبضغط من بعض القوى في الداخل اللبناني- على رفع راية الاستسلام، والقبول بنزع سلاح المقاومة، من دون رؤية واضحة قابلة للتحقيق على الأرض.
وأوّلُ ما يُثبت عدم واقعية هذا الطرح: استمرار احتلال إسرائيل لنقاط في الجنوب اللبناني بعد وقف إطلاق النار، إلى جانب بقية الأراضي اللبنانية المحتلة.
المقاومة اللبنانية هي مؤسسة متكاملة، تضم الجانب السياسي والعسكري، وهي حاضرة في الساحة العسكرية ضد إسرائيل، كما تشارك سياسيًا بوصفها شريكًا أساسيًا مع القوى السياسية اللبنانية الأخرى في بناء لبنان منذ أكثر من 40 عامًا، وهي لا تتأثّر باستشهاد شخصية سياسية أو عسكرية؛ لأن البديل دائمًا حاضر؛ فالمقاومة فكرة وعقيدة لا تموت بموت مؤسسيها. ورغم أن استشهاد السيد حسن نصر الله كان مؤثّرًا في بيئة المقاومة، فقد تم التعويض سريعًا، وبقيت المبادئ النضالية ثابتة لا تتغيّر. لذلك، نرى الوَهْم الإسرائيلي والأمريكي يتبدّد في لبنان، بإصرار المقاومة على قدسية سلاحها، فهو أمانها وطريقها لطرد المحتلّ الإسرائيلي. والأيام المُقبلة كفيلة بإثبات ذلك.
أما المشهد في غزة؛ فهو مشهد بطولي تعجز الكلمات عن وصفه، وقضية تسليم السلاح والاستسلام تبقى بعيدة المنال في غزة الصامدة، خاصة مع الخداع الإسرائيلي المستمر في مسألة وقف إطلاق النار. لذلك، تبقى غزة عصيَّة على تحقيق مطلب نزع السلاح؛ فهي ما تزال تمتلك ورقة الأسرى، التي تشكّل ضغطًا على نتنياهو في الداخل الإسرائيلي. والمظاهرات الكبيرة التي تشهدها تل أبيب، إضافة إلى الاحتجاجات الضخمة في العواصم الأوروبية، دليل على رفض عملية التجويع التي يمارسها الصهاينة في غزة. معادلة نزع السلاح في غزة لم ولن تنجح؛ لأنها ببساطة تعني ابتلاع غزة والضفة الغربية لصالح إسرائيل كما يحلم بذلك نتنياهو. وستظل ساحة غزة تُقاتل، ومعها أدوات ضغطها من الأسرى، إضافة إلى التظاهرات الكبرى داخل إسرائيل وخارجها، الرافضة للحكومة الإسرائيلية، حتى تحقيق وقف إطلاق النار كشرط أساسي، وإدخال المساعدات إلى غزة.
الجبهة اليمنية بدورها تشكل عامل ضغط كبير على العدو الإسرائيلي؛ فهي ما تزال مفتوحة ولم تتأثر بالحملة الأمريكية البريطانية عليها؛ بل إن الأمريكي هو من طلب وقف إطلاق النار، والإسرائيلي لم يستطع فعل شيء يذكر في هذه الجبهة. أما الصاروخ الأخير الذي ضرب تل أبيب، فلا يزال تأثيره كبيرًا في الداخل الإسرائيلي، وخارجه؛ فهو صاروخ فرط صوتي لم تستطع الدفاعات الأمريكية والإسرائيلية إسقاطه. ووفقًا لبعض الروايات، كان ذا رؤوس مُنشطِرة، يُشبه الصاروخ الإيراني الانشطاري الذي ضرب إسرائيل قبل وقف إطلاق النار بين إسرائيل وإيران.
ختامًا.. معركة طوفان الأقصى، وما نتج عنها من وحدة الساحات القتالية ضد إسرائيل منذ السابع من أكتوبر، حققت نقاطًا لصالح هذا الطرف وذاك، وأهم النقاط الإسرائيلية كانت الاغتيالات والقتل والتدمير، وتعتقد إسرائيل وحلفاؤها أنها تستطيع تحويل ذلك إلى نصر استراتيجي، بالتعاون مع الداخل اللبناني المعادي للمقاومة، عبر مشروع نزع سلاح المقاومة، لكن ما يجري على الأرض يُكذِّب هذه الرؤية.
المقاومة اللبنانية باقية بسلاحها، لأن هذا السلاح هو الخيار الاستراتيجي لمواجهة أطماع إسرائيل في المنطقة، وهو المعادلة الحقيقية الباقية في الردع العسكري، التي بُنيت بدماء شهدائها منذ قيامها عام 1982، ولا يمكن التفريط فيه إلّا بتوافق مع المقاومة اللبنانية، وفق استراتيجية الدفاع الوطني، وانسحاب إسرائيل من الأراضي التي تحتلها في لبنان.
وفي غزة، الصمود، وورقة السلاح والأسرى، ستظل أدوات ضغط على إسرائيل لقبول وقف إطلاق النار، رغم ممارستها لورقة تجويع غزة والتهويل باحتلال قطاع غزة بالكامل، وما يمنعها هو سلاح المقاومة، وتأثيره في الداخل الإسرائيلي.
وأخيرًا.. المعادلة الصهيو-أمريكية الجديدة لن تنجح على الأرض، وستبقى حبرًا على ورق، والذي يُفشلها هو سلاح المقاومة فقط لا غير.