"الشرق الأوسط الجديد" يفشل للمرة الثانية

 

 

 

جمال بن ماجد الكندي  

مشروع "الشرق الأوسط الجديد"، عبارة برَّاقة تُتداول في سياقات مختلفة لدى الغرب وإسرائيل؛ فهل يُراد منها الاستقلال السياسي والاقتصادي لدول المنطقة؟ أم المقصود تمكين دولةٍ تُعرف بأنها دولة احتلال منذ عام 1948 للتربع على المنطقة سياسيًا واقتصاديًا وعسكريًا ألا وهي إسرائيل؟

في هذا المقال نسعى لشرح هذا المفهوم وتأكيد الفشل في تحقيق بنوده؛ بدءًا من تجربته الأولى في حرب لبنان عام 2006، ثم تجربته الثانية التي ما تزال قائمة، وانتهت جولتها الأولى بفشل ذريع لإسرائيل في عدوانها على إيران، وفق معطيات رسمتها إسرائيل ولم تُحقِّقها على الأرض، سنذكرها ونُحلِّلها.

مشروع الشرق الأوسط الجديد هو تصور أمريكي- صهيوني يقوم على إعادة رسم خرائط المنطقة، من خلال تقسيم دول كبرى مجاورة لإسرائيل إلى كيانات طائفية وإثنية تتنازع فيما بينها، وتُبعدها عن الصراع مع إسرائيل. ويُراد من ذلك تفتيت الجيوش العربية إلى جيوش طوائف، بحيث تكون الكلمة العُليا في المنطقة لإسرائيل، مع إجهاض أي جيش أو مُنظمة تعاديها. إنها عملية تدمير مُنظَّم للجيوش المركزية في دول الطوق المحيطة بإسرائيل، كما حدث في العراق وسوريا؛ وذلك عبر إيجاد عدو داخلي أو خارجي، تُغذّيه الولايات المتحدة تحت ذرائع متعددة، والهدف الثابت هو تفتيت هذه الجيوش.

هذه هي المرحلة العسكرية، تليها المرحلة السياسية، ومن أبرز ملامحها التطبيع مع إسرائيل، ضمن حلٍّ إقليمي يُنهي القضية الفلسطينية، وفقًا لرؤية "الشرق الأوسط الجديد". ولتحقيق هذا الغرض، والذي تتمثل نواته الأساسية في إضعاف الجيوش العربية، برز مصطلح "الفوضى الخلّاقة"، وهو مصطلح استخدمته وزيرة الخارجية الأمريكية الأسبق كوندوليزا رايس، للإشارة إلى أن الفوضى (مثل: الثورات، والانقسامات، والحروب الأهلية) مسألة ضرورية لولادة نظام جديد يخدم الغرب. وهذه رؤية استراتيجية تهدف إلى إعادة تشكيل منطقة الشرق الأوسط سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا؛ بما يخدم مصالح الولايات المتحدة وحلفائها، وخاصة إسرائيل. ومن أبرز بنود هذه الرؤية: تصفية القضية الفلسطينية، والقضاء على كل سلاح يُرفع في وجه إسرائيل.

فَشَلَ مشروع "الشرق الأوسط الجديد" في تجربته الأولى، والتي تمثّلت في نتائج حرب لبنان عام 2006، ففي يوليو من ذلك العام، شنّت إسرائيل حربًا مُدمّرة على لبنان، بعد قيام "حزب الله" بأسر جنديين إسرائيليين. وكما هي العادة، دعمت الولايات المتحدة إسرائيل بقوة، وقالت رايس تصريحها الشهير: "ما نراه الآن هو مخاض ولادة شرق أوسط جديد"؛ أي إن الدمار والقتل اللذين لحقا بلبنان، كانا- برأيها- من أجل ولادة هذا الشرق الموعود. وقد كانت تقصد بذلك القضاء على حركة المقاومة الإسلامية في لبنان، لكن العدوان الإسرائيلي فشل في تحقيق أهدافه؛ إذ لم تستطع الآلة الحربية الإسرائيلية القضاء على المقاومة اللبنانية، وتم وقف إطلاق النار بطلبٍ إسرائيلي. وقد تُرجم ذلك على الأرض بصدور قرار مجلس الأمن رقم 1701، الذي شكّل نهاية لتلك الجولة، وأجهض المشروع في نسخته الأولى.

النسخة الثانية من مشروع الشرق الأوسط الجديد كانت بوابتها الجمهورية الإسلامية الإيرانية، بمعنى الإطاحة بالنظام الإيراني؛ إذ إنَّ هذا النظام، بحسب التوصيف الأمريكي- الصهيوني، يُعد العُمق الاستراتيجي لقوى المُقاوَمة والمُمانَعة في لبنان وفلسطين واليمن. وإذا أردنا تشكيل نظام جديد وفق الرؤية الأمريكية في المنطقة، فإنَّ العقبة الكبرى هي إيران!

ومُنذُ نجاح الثورة الإسلامية في إيران عام 1979، واستبدال علم إسرائيل في السفارة الإسرائيلية بعلم فلسطين وتحويلها إلى سفارة فلسطينية، أصبح العدو الاستراتيجي لأمريكا وإسرائيل هو إيران. ومهما حققت إسرائيل من إنجازات هنا وهناك- حسب تعريفها لهذه الإنجازات- فإنها تظل ناقِصة، ما دام النظام الإيراني باقيًا ويدعم قوى المقاومة في المنطقة.

العدوان الإسرائيلي بتاريخ 13 يونيو 2025، على إيران كان بدايةً لتحقيق الحلم الصهيو-أمريكي في القضاء على القوة الفاعلة والباقية والوحيدة التي تُقاتل إسرائيل بشكل غير مباشر، عن طريق دعم حركات المقاومة في لبنان وفلسطين واليمن والعراق، وبطريقة مباشرة عبر عمليتي "الواعد الصادق 1 و2". وجاء العدوان الإسرائيلي تحت مسميات مختلفة، من أبرزها: القضاء على البرنامج النووي الإيراني. لكن هذا العدوان كان أكبر من ذلك؛ إذ استهدف تغيير النظام الإيراني ومحاولة استبداله بنظام يدور في الفلك الصهيو-أمريكي. ومع افتراض نجاح هذه العملية، كان يُخطط لإسقاط باقي القوى المناهِضة والمُقاوِمة للمشروع الأمريكي- الإسرائيلي في المنطقة، والعقبة الأساسية مثلت في إيران.. فهل نجح المشروع؟!

لمعرفة ذلك، لا بُد من تحليل أهداف الحرب الصهيونية وطرح سؤال: هل تحققت؟ لأن الحرب لم تكن فقط لإجهاض المشروع النووي السلمي في إيران؛ بل كان الهدف أبعد من ذلك؛ إنه رأس النظام.

أهداف الحرب الإسرائيلية على إيران كانت أبعد من مجرد القضاء على البرنامج النووي الإيراني؛ فقد كانت الخطة الإسرائيلية تقضي باغتيال المرشد الأعلى للثورة الإيرانية، إلى جانب القادة العسكريين والأمنيين في الصف الأول. ثم تنفيذ موجة من الاغتيالات، قدرَّها البعض بنحو 400 شخصية، وهو ما لم يتحقق. ومن خلال هذه الأهداف، يُمكن التعرف على الطرف المنتصر في الجولة الأولى من هذه الحرب.

أُولى بوادر الانتصار الإيراني كانت في الإعلان الأمريكي عن وقف إطلاق النار، بعد مجموعة من النتائج كالتالي:

1- فشل محاولة اغتيال رأس الهرم الديني والسياسي في إيران، وهو المرشد الأعلى علي خامنئي.

2- فشل تدبير محاولة الانقلاب من داخل إيران عبر أدوات زرعها الموساد الإسرائيلي، وقد تم الكشف عن كثير منها. وكانت هذه الأدوات من أكبر رهانات إسرائيل لضرب النظام الإيراني قبل بدء العمليات الحربية.

3- فشل القضاء على النظام الصاروخي الإيراني؛ بل إن هذا النظام كان من أبرز أسباب الإعلان الأمريكي عن وقف إطلاق النار، خاصةً بعد أن استخدمت إيران صواريخ متقدمة فرط صوتية، أذهلت العالم، وكانت مُدمِّرة ومُخيفة للكيان الصهيوني، وحققت أهدافها بدقة.

4- فشل الضربة الأمريكية على المفاعلات النووية الإيرانية، والتي كانت السبب الرئيسي وراء العدوان على إيران.

وهذه النقطة الأخيرة كانت الحاسمة في إعلان انتصار إيران في حرب الأيام الـ12.

فكيف ذلك؟!

من خلال ما تحدثت عنه وسائل الإعلام الأمريكية عن فشل الضربة الأمريكية على المفاعلات النووية الإيرانية؛ استنادًا إلى تقارير استخباراتية مُسرَّبة، مفادها أن الضربة لم تُدمِّر هذه المنشآت بشكل كُلي؛ بل ربما تؤخّر عملية التخصيب لبضعة أشهر فقط. وقد أغضبت هذه التسريبات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وحرمته من إعلان "النصر المُؤزَّر" على إيران.

وبتحليل بسيط للوقائع، ندرك أن الضربة كانت فاشلة لسبب جوهري، وهو عدم تسجيل أي تسرُّب إشعاعي في إيران أو في المناطق المجاورة. وهذا يعني إما أن المنشآت قد فُرِّغت من اليورانيوم المخصب قبل الضربة، أو أن القنابل الثقيلة لم تصل إلى هدفها ولم تُدمّر اليورانيوم المُخصَّب؛ مما كان سيؤدي- لو حصل فعلًا- إلى كارثة نووية، قد تُستخدم ذريعة لإدخال البلاد في حالة من الفوضى، تُحمِّل النظام مسؤوليتها وتُمهِّد لسقوطه. لكن شيئًا من هذا لم يتحقق. وبالتالي، جاء وقف إطلاق النار نتيجة فاعلية الصواريخ الإيرانية، وفشل سيناريو "التغيير من الداخل" الذي راهن عليه الطرف الأمريكي والكيان الصهيوني.

لا ريب أن مشروع الشرق الأوسط الجديد كما فشل في نسخته الأولى بفضل صمود المقاومة اللبنانية عام 2006، قد فَشل مجددًا في نسخته الثانية أمام الصلابة الإيرانية خلال حرب الاثني عشر يومًا، مع عدم تحقق أهداف إسقاط النظام ولا تصفية البرنامج النووي، رغم ضخامة العدوان والتنسيق الصهيو-أمريكي. وبدلًا من "نصر مُؤزَّر" مُعلن، فرضت إيران معادلتها بالصواريخ والسيادة. وهكذا انتصرت طهران، ليس فقط في الميدان؛ بل في إعادة رسم معادلات الردع في المنطقة.

الأكثر قراءة