ناجي بن جمعة البلوشي
نستعرض في الحلقة الأخيرة من هذا المقال الأسباب التي قد تُشتِّت القوة الشرائية في أسواقنا، ومنها عدم الاحترافية في خطط هدم وإعادة بناء الأسواق التقليدية؛ مما يخلق أسواقًا رديفة جديدة في الوقت الذي يتم فيه الهدم وإعادة البناء، لتكون سببًا في غلق السوق بعد إعادة تشغيله.
أضف إلى ذلك شيخوخة المدن حتى الاندثار دون إحداث أي تغيير فيها كإعادة التخطيط أو تغيير الاستعمال. وأضرب مثالًا بمنطقة "الخوير 17" والقرم في محافظة مسقط؛ حيث تغيَّرت ملامح سكانها ممن كانوا فيها إلى من هم فيها اليوم، وهذا المثال يمكن قياسه على الوادي الكبير والغبرة ومناطق أخرى في المحافظات؛ فالمستهلك الجديد لا يرتاد ذات الأسواق التي كان يرتادها السكان السابقون، ونحن جميعنا نعرف من هم ساكنوها اليوم.
كما إن الانتقال الجماعي المحلي للسكان من بين الأسباب، ونعني بهذا أن الحكومة أوجدت مخططات متكاملة جديدة للسكان خارج مناطق سكنهم الحقيقية؛ حيث تنتقل عائلات بأكملها من ولاية إلى ولاية أخرى أو من محافظة لأخرى، وهذا الانتقال يؤثر على الأسواق التي نشأت بوجود تلك العوائل في بدايتها.
علاوة على توزيع الموظفين للعمل خارج مناطقهم وولاياتهم؛ مما يؤدي إلى تشتت الرواتب الشهرية للموظفين في اتجاهات عدة، فتوجّه المواطن للعيش في منطقتين أو ولايتين بنفس الراتب يسبب له الكثير من الأعباء المالية.
ويمكن اعتبار ضبابية المشهد في القوانين والإعفاءات والمبادرات والأنظمة وغيرها من بين ما يؤثر سلبًا على جذب أو بقاء المنافسين لسلاسل التوريد في السوق المحلي، فيُشجِّع الكثيرين على طلب أو استيراد ما يحتاجونه من المنتجات والسلع والخدمات من الدول المجاورة.
سبب آخر يتمثل في ضعف التعداد السكاني لعموم السلطنة وعدم تكافؤ التوزيع السكاني الحقيقي على المساحة السكانية؛ مما يُقلِّل عدد المستفيدين من خدمات ومنتجات العاصمة، حتى مع توجه السلطنة إلى زيادة عدد السكان إلى نحو 7 أو 8 ملايين نسمة في خططها المستقبلية. ولن يؤثر ذلك في القوة الشرائية الإجمالية للعاصمة، وذلك لوجود توجه حكومي في المسار نفسه بإنشاء مدن سكانية مستقبلية في المحافظات ستحتوي على أسواق ومراكز بيع وتسوق تكتفي بذاتها.
وضعف القوة الشرائية يعود كذلك إلى قلة وسائل التنقل وارتفاع أسعارها داخل المدينة، بسبب المسافات الشاسعة والتخطيط في توزيع المناطق السكانية والعمرانية.
ويمكن إضافة سبب آخر يتمثل في تشديد الرقابة والتدقيق والتفتيش مع ارتفاع أسعار مخالفات الخدمات الحكومية كعقود تسجيل الإيجارات ومواقف السيارات وبطاقات العمل ونسبة التعمين وغيرها؛ مما يساعد على العيش والعمل في أماكن بعيدة عن مركز المحافظة.
أسباب مجتمعية
وهناك أسباب اجتماعية تتمثل في سلوك الاتجاه الواحد؛ فأبناء المجتمع مثلًا، من مجرد إعلان واحد لأحد مشاهير التواصل الافتراضي (الاجتماعي)، تجد المستهلكين يشترون بضائع ومنتجات لا حاجة لهم بها، والسبب فقط اتباعهم لإعلان ذلك المشهور أو لسلوك الآخرين في شراء ذلك المنتج.
علاوة على عدم قدرة المستهلك على تنظيم حاجياته الحقيقية من السوق دون سبب منطقي لهذا التصرف؛ فمثلًا يشتري الدجاج المذبوح الطازج بكميات كبيرة ويضعه في ثلاجة بيته لمدة شهر، أو يتكلف ذبيحة لحم كاملة ليضعها في ثلاجته لأشهر عدة فقط لمجرد أنها ذُبحت أمامه!
مكوّن الإنسان العُماني له تأثير على وضعه المادي، فهو بين القرية والتشبث بها وبين المدينة التي يحتاج إلى الامتثال لتطورها. وهنا البعض يوزع القوة الشرائية على محطات مختلفة من البيع دون جدوى حقيقية منها؛ فالتسوق من القرية فقط ليمثل جانبه الاجتماعي فيها، أما التسوق الافتراضي والذهاب إلى مقاهي القهوة والدخان والملاهي الليلية وغيرها فيمثل جانبه الاجتماعي في المجتمع المتمدن.
الحالة الاقتصادية للأفراد تؤثر كذلك؛ حيث إن قرابة 60% من الرواتب والإتاوات المالية تذهب إلى السكن ومستلزماته، و10% إلى التنقل وامتلاك المركبات؛ ليبقى الفرد ملتزمًا بالباقي بمعيشته إلى نهاية الشهر.
الانسياق إلى الحداثة بكل معانيها.. فلا يمكن التفريق بين العامل ذي الدخل البسيط أو العامل ذي الدخل المتوسط؛ فالجميع سواء في الكماليات، مما يؤثر سلبًا على المعيشة الاستهلاكية.
الاعتقاد بأن القروض هي الحل لبلوغ كل شيء؛ فهي الحل لامتلاك المنزل والسيارة والأثاث والكهربائيات وأدوات الترفيه والسفر وغيرها، مما يتسبب في وجود التزامات مالية ثقيلة.
وهناك أسباب كثيرة لا يمكن لنا حصرها، إلّا أن هناك نخبًا ومختصين بإمكانهم دراسة الوضع الذي نحن فيه حتى تتضح الصورة وتكون معها الحلول. فمؤشرات انتشار المقاهي (الكافيهات) قد تكون سببًا في الرفاه كما تكون سببًا في قلة الإنتاج، علاوة على أن زيادة مبيعات السيارات الصينية قد تكون سببًا في توجه المستهلكين لها، لكنها قد تكون سببًا كذلك في عدم القدرة على اقتناء غيرها. وقد يكون وجود القوى العاملة الرخيصة في كل الأنشطة التجارية سببًا لانحدار السوق. ولهذا فعندما تُعلن البنوك التجارية فوائدها السنوية العالية، فاعلم أن المجتمع يشتري القروض ولا يمتلك الثروة!