د. أحمد بن علي العمري
التقى الرئيسان الأمريكي والروسي في ولاية ألاسكا الأمريكية، يوم الجمعة 15 أغسطس 2025، في لقاء سُمِّي "البحث عن السلام"، وكان يُفترض أن يكون اللقاء محصورًا بينهما فقط، لكن الأوروبيين أبدوا عدم رضاهم خوفًا من أن يلتهم بوتين بحنكته ترامب؛ فبوتين منحدر من خلفية سياسية ذات جذور استخباراتية، وهو داهية وثعلب ماكر، بينما ترامب رجل تاجر صاحب صفقات وتبادلات تجارية، ناهيك عن أن عينه على جائزة نوبل للسلام التي يسعى لها بشتى الوسائل، ويمكن في سبيلها أن يقدم الكثير من التنازلات.
صحيحٌ أن المال يتحكم في السياسة، ولكن عندما يلتقوا وجهًا لوجه، تلف السياسة المال تحت ذراعيها بكل تمكن وسهولة، وعليه تم الاتفاق أن يكون الرئيس وثلاثة آخرين من كل جانب.
لاحظنا أن طائرة الرئيس الأمريكي تصل قبل الرئيس الروسي بنصف ساعة أو أكثر قليلًا، ولكنه لم ينزل من الطائرة حتى وصل الرئيس الروسي، لينزلا متزامنين. ثم لاحظ الجميع التصفيق الذي قام به الرئيس الأمريكي للرئيس الروسي على السجادة الحمراء؛ الأمر الذي عكس الود والمزيد من الترحيب.
لقد رافقت المقاتلات الأمريكية "بي 2" طائرة الرئيس الروسي حتى نزولها في القاعدة العسكرية، وهي التي قامت بضرب المفاعلات النووية الإيرانية، وربما يكون في هذا دلالة أو تلميح من الجانب الأمريكي.
حتى عندما استعرضت الطائرات الأمريكية قاذفات الشبح في الجو، لفتت انتباه بوتين مبدئيًا شيئًا من الامتعاض، ليُوضح له ترامب -على ما يبدو- أنها للترحيب فقط.
وكذلك عندما رفع ترامب يده لتحية جنود العرض، لم يرفع بوتين يده ولم يأبه لذلك، وهذه النقطة تُحسب لبوتين؛ فهو -أي الرئيس الأمريكي- يُحيي جنوده، ولا لي علاقة لي بهذا، هكذا تحدثت لغة جسده بكل وضوح.
لقد كانت طائرة الرئيس الأمريكي فخمة وضخمة، بينما طائرة الرئيس الروسي عادية جدًا، وهذه هي سجية الروس عبر التاريخ؛ فالمخبر عندهم أهم من المظهر بكثير، ولا يُعيرون للمظاهر أي اهتمام.
الملفت أن الثلاثة من الجانب الروسي متمرسون في الشأن الأمريكي ويتحدثون الإنجليزية بطلاقة تامة.
فقد دعا الرئيس الأمريكي نظيره الروسي لمشاركته الركوب في السيارة الرئاسية الأمريكية، وقد وافق على ذلك، حيث لاحظنا أنه عندما فتحوا المراسم باب السيارة لبوتين -وهو الباب القريب- تجاوزه ليترك مجالًا لترامب، فركبا في السيارة وكأنما ترامب هو الضيف وليس المستضيف، وقد بدا بعدها بوتين مبتسمًا من خلال الصورة وهو في السيارة، في إشارة ضمنية إلى أن ألاسكا روسية الأصل.
إلى هذا الحد يكون بوتين قد تخطى الحاجز الدولي والعزلة والمتابعة له من أوسع الأبواب، وهي بوابة الولايات المتحدة الأمريكية، وهذا بحد ذاته إنجاز لبوتين يُحتسب له.
ويكفي بوتين أن الجيش الأمريكي بزي جنوده الرسمي يقومون بفرش السجادة الحمراء أمام طائرته وفي مسار ممشاه.
حتى في اللقاء الأولي الذي كان مخصصًا لالتقاط الصور قبل الدخول للاجتماع، سأل بعض الصحفيين المتواجدين -والذين الظاهر أن أغلبيتهم أمريكيون- بوتين بعض الأسئلة المحرجة، فرد عليهم بإيماءات ولغة جسد مبهمة، قبل أن يطلب أفراد المراسم منهم المغادرة.
إنّ أمريكا ومعها أوروبا كاملة، وبالأخص الأوكرانيين، يضعون أيديهم على قلوبهم خوفًا من أن يستخدم بوتين خبرته الاستخباراتية الطويلة في تجنيد ترامب لصالحه، حتى في حضور المرافقين.
استمرّ اللقاء ساعتين وخمسًا وأربعين دقيقة، وأهم نتائجه يمكن تلخيصها في التالي:
1) كسر بوتين عزلته الغربية من أوسع أبوابها.
2) أمريكا وروسيا بلدان جاران يفصل بينهما محيط، وقد حاربا عدوًا مشتركًا فيما مضى.
3) وصلت العلاقات في الفترة الأخيرة إلى مستوى متدنٍ.
4) تم شرح الرؤية الروسية تجاه أوكرانيا للرئيس الأمريكي.
5) محادثات ألاسكا تؤسس لتطبيع العلاقات مع أمريكا كاملة.
6) ترامب: نريد أن نتجاوز الخلافات مع روسيا، وقد كان الاجتماع مع بوتين مثمرًا جدًا.
7) ربما تكون أوروبا ومعها أوكرانيا هما الأكثر خسارة لبقائهما على الهامش.
لقد نجحت هنا روسيا بامتياز، ونجحت أيضًا أمريكا… وهذا يؤكد ما ذكرته في بداية المقال: إن الرئيس الأمريكي عينه على جائزة نوبل للسلام، والروسي يريد دفعة قوية ومسارًا يمضي عليه في قادم الوقت.
والتأكيد هنا أن ترامب لم تكن عينه سوى على جائزة نوبل، وهي أهم عنده من أوكرانيا وحتى أوروبا، ومعهم روسيا وبوتين نفسه.
نعم، لقد كانت هذه البداية، وسوف يتبعها ما يليها. بمعنى واضح: نجحت القمة كبداية للطرفين.
ربما برودة ألاسكا كان لها الأثر البالغ في تبريد الأجواء الساخنة التي سبقت اللقاء.
ولله في خلقه شؤون.
نسأل الله أن يحمي البشرية جمعاء من كل شر.