عبيدلي العبيدلي **
تحوّل الذكاء الاصطناعي (AI) من كونه مجالًا متخصصًا داخل المعامل والمختبرات إلى كونه عنصرًا جوهريًا في قلب السياسات الاقتصادية والاستراتيجيات التنموية للدول. يمثّل اليوم لحظة انعطافية في مسار تطور الاقتصاد العالمي، على غرار الثورة الصناعية أو الثورة الرقمية. غير أن ما يميز هذه الطفرة هو تسارعها غير المسبوق، وتأثيرها المركب على بنى العمل، والملكية، والمعرفة، والسلطة الاقتصادية.
هذه الإطلالة الاستشرافية لا تتعامل مع الذكاء الاصطناعي كأداة تقنية فقط، بل بوصفه "ظاهرة اقتصادية كونية" يُعاد من خلالها تعريف مفاهيم مثل القيمة، الكفاءة، النمو، والعدالة. وبالقدر ذاته تطرح أسئلة وجودية على مستوى مستقبل البشرية في ظل الخوارزميات.
أولًا: التحولات العميقة في بنية الاقتصاد العالمي
- من الاقتصاد المادي إلى الاقتصاد الخوارزمي
لقد أدى الاعتماد على الذكاء الاصطناعي إلى تحول مركز القيمة الاقتصادية من المواد الخام والعمالة إلى البيانات والمعرفة. ففي الاقتصاد الخوارزمي، بات من يملك الخوارزميات الدقيقة والبيانات الكثيفة هو من يتحكم فعليًا في الإنتاج والقيمة.
مثال: شركة Google، التي تأسست برأس مال صغير، تتجاوز قيمتها السوقية اليوم معظم شركات الطاقة والموارد الطبيعية، لأن "البيانات" هي النفط الجديد، و"الخوارزمية" هي وسيلة تكريره.
- إعادة تشكيل سلاسل القيمة العالمية
لقد أصبحت التقنيات الذكية تلغي الكثير من مراحل الإنتاج، أو تعيد دمجها في سحابة رقمية واحدة، ما يؤدي إلى انكماش سلاسل التوريد التقليدية. فالشركات لم تعد بحاجة إلى مئات الموردين أو الوسطاء، بل إلى منصة ذكية تستند إلى الذكاء الاصطناعي، ما يقلل التكاليف لكنه يُقصي الملايين من المشاركين التقليديين في الأسواق.
- انفصال العمل عن الأجر في بعض القطاعات
في الصناعات التي تعتمد على الذكاء الاصطناعي مثل الترجمة، التحليل المالي، وحتى التشخيص الطبي، لم تعد القيمة ترتبط بالوقت الذي يبذله الفرد، بل بقدرته على تصميم أو تشغيل منظومة ذكية تعمل بدلاً عنه. هذا يؤدي إلى تحول في مفهوم “العمل”، ويطرح تحديًا لمعادلات الأجر والتأمين الاجتماعي.
ثانيًا: عدم التوازن في التوزيع الجغرافي للعوائد
- التركيز الجغرافي للملكية التكنولوجية
أكثر من 80% من براءات الاختراع في الذكاء الاصطناعي تتركز في عشر دول فقط. كما أن خمس شركات مثل (Microsoft وAmazon وTencent) تمتلك البنى التحتية الأساسية التي تُشغّل تقنيات الذكاء الاصطناعي عالميًا. وهذا يخلق اقتصادًا قطبيًا، حيث يتم استيراد الذكاء الاصطناعي مثل السلع، بدل إنتاجها محليًا.
- تفاقم الفجوة الرقمية العالمية
وفقًا لتقرير الاتحاد الدولي للاتصالات لعام 2024، لا يزال 33% من سكان العالم غير متصلين بالإنترنت، معظمهم في إفريقيا وجنوب آسيا. ويُفاقم ذلك من عدم المساواة في الوصول إلى تقنيات الذكاء الاصطناعي، ما يجعل التفاوت الاقتصادي مرشحًا للاتساع أكثر.
- الاقتصاديات التابعة لخوارزميات أجنبية
تقوم العديد من الدول النامية باستخدام تطبيقات ذكاء اصطناعي أجنبية المصدر دون القدرة على التدقيق في خوارزمياتها أو التحكم في بيانات مواطنيها، ما يؤدي إلى ما يُعرف بـ "الاستعمار الرقمي"، حيث تصبح المجتمعات مستهلكة للتكنولوجيا دون أن تكون فاعلة في تطويرها.
ثالثًا: آثار متناقضة على أسواق العمل
- الإلغاء الجزئي والتوظيف البديل
تشير بيانات المنتدى الاقتصادي العالمي إلى أن الذكاء الاصطناعي سيؤدي إلى إلغاء 85 مليون وظيفة بحلول 2025، مقابل خلق 97 مليون وظيفة جديدة في مجالات تتطلب التفكير التحليلي، والبرمجة، وإدارة البيانات.
لكن المشكلة تكمن في أن الوظائف الجديدة تتطلب مهارات مختلفة تمامًا، ما يُحدث فجوة انتقال مؤلمة.
- التهديد لأصحاب الدخل المتوسط
من الملاحظ أن الذكاء الاصطناعي لا يستهدف فقط الوظائف اليدوية، بل أيضًا الوظائف المكتبية المتوسطة مثل موظفي البنوك، والمحاسبين، والمترجمين، مما يهدد استقرار الطبقة الوسطى والحيز الذي تحتله في التكوين المجتمعي.
- أتمتة القرارات الإدارية والسياسية
بدأت تقنيات الذكاء الاصطناعي تدخل في صنع القرار الحكومي، بما في ذلك تقييم الأداء، تخصيص الميزانيات، وحتى سياسات التوظيف. ورغم أن ذلك يسرّع الأداء، إلا أنه يُفرغ السياسة من بعدها الإنساني ويجعل الدولة نفسها رهينة الخوارزميات.
رابعًا: سيناريوهات استشرافية للاقتصاد العالمي في ظل الذكاء الاصطناعي
- الهيمنة الرقمية وتراكم الثروة
في حال غياب التنظيمات الفعّالة، ستتعاظم قوة الشركات التكنولوجية الكبرى وتتحول إلى كيانات شبه سيادية (النموذج الأمريكي). وستنحصر القيمة الاقتصادية في منصات الذكاء الاصطناعي الاحتكارية، ما يؤدي إلى تركز غير مسبوق للثروة والسلطة، وتدهور في التعددية الاقتصادية.
- التنمية العادلة المدعومة بالذكاء الاصطناعي
إذا ما أحسنت الدول النامية الاستثمار في التعليم، ووفرت بنية تحتية رقمية قوية، ووجهت الذكاء الاصطناعي نحو تحسين الإنتاج المحلي والخدمات العامة، يمكن أن يتحول الذكاء الاصطناعي إلى أداة للنهضة الاقتصادية الشاملة.
أمثلة حالية: مبادرات الهند في استخدام الذكاء الاصطناعي لتطوير الزراعة والعدالة.
- الانكماش التكنولوجي والانكماش الديمقراطي
في حال تفاقمت الفجوة الرقمية، وفقد المواطنون الثقة في حيادية الخوارزميات، ستُواجه الأنظمة السياسية ضغطًا شعبيًا يؤدي إلى فرض قيود صارمة على استخدام الذكاء الاصطناعي، ما يُبطئ عجلة الابتكار ويقلل من كفاءته، دون أن يحل أصل المشكلة.
وكما هو ملاحظ، يشهد العالم في العقود الأخيرة تحولًا جذريًا في نماذج الإنتاج والأنشطة الاقتصادية، نتيجة التقدم المتسارع في تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي. لم يعد الذكاء الاصطناعي مجرد تقنية متقدمة تُستخدم في بيئات بحثية مغلقة أو صناعات نخبوية، بل أصبح قوة محركة للابتكار والإنتاجية وإعادة تشكيل العلاقات الاقتصادية والاجتماعية على المستويات المحلية والعالمية.
فمن المتوقع، وفقًا لتقديرات شركة PwC، أن يسهم الذكاء الاصطناعي بما يقرب من 15.7 تريليون دولار في الناتج المحلي الإجمالي العالمي بحلول العام 2030، مما يعكس حجم التحول الذي يفرضه هذا الذكاء على اقتصادات العالم، سواء من حيث القيمة المُضافة أو من حيث إعادة توزيع فرص العمل والثروة.
غير أن هذه الطفرات المصاحبة للذكاء الاصطناعي لا تخلو من التحديات والمخاطر، بل إنها تدفع المفكرين وصناع السياسات إلى ضرورة استشراف سيناريوهات متعددة لمستقبل الذكاء الاصطناعي في الميدان الاقتصادي.
** خبير إعلامي