فلسطين و"أبوعبيدة" في دفاتر ابنتي

 

عبدالله الشافعي

في البداية، دعني أخبرك أنَّ ابنتي البالغة من العُمر 7 سنوات، قررت أن تمنح نفسها اسم "أم عبيدة"، وذلك بعد أن تعلقت بخطابات المُلثم "أبو عبيدة" رحمة الله عليه، ولا أدري لماذا تعلقت بشخص لا تعرفه ولا تعرف ملامحه، لكنها كانت تنصت له وتُركز في كل كلمة يقولها، وتسأل عن المُفردات التي يعجز عقلها الصغير عن استيعابها، وترى فيه بطلاً رغم أنَّه لم يخرج حاملا للسلاح، ولم تظهر له أي فيديوهات يُقاتل فيها، لكنه كان في نظرها بطلاً تريد أن تُصبح مثله.

لا تُحب ابنتي مشاهدة أو الاستماع لأي شيء يهتم به الكبار، تنزعج من نشرات الأخبار وتتأفف من مشاهدة المباريات، لكن عندما يتعلق الأمر بخطاب "أبو عبيدة" كانت تهتم كثيراً، وفور سماع صوته تركض نحوي للاستماع معي، وكأنَّ الخطاب موجّه لها، أو كأنَّ الملثم أحد أقاربها من الدرجة الأولى وتنتظر منه أخبار العائلة التي تعيش مِحنةً لم يشهد مثلها التاريخ الحديث.

وعلى مدار عامين من الإبادة في غزة، انهالت عليَّ الكثير من الأسئلة من ابنتي حول غزة وفلسطين والاحتلال، وكيف وصل الإسرائيليون إلى هناك، ولماذا لم ينتفض العرب والمسلمون للدفاع عن الأبرياء واسترداد الأرض، ولماذا لا نذهب نحن إلى فلسطين لمُحاربة الاحتلال، وبدوري اجتهدت في الإجابة على كل أسئلتها بطريقة تستوعبها وتغرس بداخلها مبادئ الدفاع عن الدين والمقدسات والأرض والأوطان.

لم تكتفِ ابنتي بطرح الأسئلة، بل فاجأتني في الكثير من المرّات بطرح الحلول لطرد المحتل، فتارة تطلب مني أن نرتدي أنا وهي ملابس تشبه ملابس المُحتلين ونذهب لفلسطين، وفور الوصول نبدل ملابسنا ونرتدي ملابس تشبه ملابس "أبو عبيدة" ونباغتهم ونقتل منهم الكثير، فيدب الرعب في قلوبهم ويهربون إلى خارج فلسطين. وتارة أخرى تطرح فكرة تتلخص في شراء الكثير من الطعام الذي يُحبه الصهاينة وندسّ فيه السم القاتل، ونسافر إلى فلسطين وندّعي أننا نُساعدهم ونوزع عليهم هذا الطعام ليموتوا جميعا ونتخلص من شرورهم.. ليت الأمر بهذه السهولة يا صغيرتي، ولكن يكفي وأنت في هذا العمر الصغير تفكرين لصالح الأبرياء أهلنا وأشقائنا.

ومنذ بدء العدوان الغاشم، بات معيار المفاضلة بين الأفراد والدول لدى ابنتي التي لقّبت نفسها بـ"أم عبيدة"، هو: "هل يحب فلسطين وأبو عبيدة أم لا"، فإذا كان الشخص يحب فلسطين فإنها تحبه وتحترمه، وإذا كانت الدولة التي تسمع عنها في الأخبار تحب فلسطين فإنها ترسم الأحلام لزيارتها، وإن كان غير ذلك تكره الشخص وتكره الدولة، لأنهم أجرموا بعدم حب فلسطين أو حب "أبو عبيدة".

وفي دفاترها، يزيّن علم فلسطين واسم أبو عبيدة مُعظم الصفحات، ترسمه بدقة شديدة، وتظل حريصة على أن تخرج الرسومات بصورة جمالية، وترسم في وسط العلم قلبا جميلا كقلبها، وتكتب بجوار هذا القلب: "أنا أحب فلسطين"، وتعلّم أصدقاءها طريقة رسم العلم وتحدثهم عن حبها للملثم.

لم تكن خطابات الملثم مجرد كلمات أو استعراض لما سطّرته المقاومة من بطولات وتضحيات، بل كانت نافذة نطل من خلالها على أبطال أمتنا، فكان صوته المُخلص ينفذ إلى قلوبنا مباشرة وفي المقابل يزلزل قلوب أعدائه ويرهبهم.. لقد جعلنا "أبو عبيدة" نستعيد شخصية البطل الذي نلتف حوله، كما أنه أحيا بكلماته الخالدة روح الملايين من هذه الأمة، ليكون من خلفه ألف ألف "أبو عبيدة" يدوسون وجه الاحتلال ويسومونه سوء العذاب.

وهكذا، استطاع الملثم أن يزرع في الأجيال الصغيرة بذور البطولة والفداء، فرُسِمت في عقولهم صورة حيّة لبطل التفَّ حوله الملايين، وانتظروا إطلالته التي كانت تمثل أيقونة لكل الأحرار في العالم، فكان بمثابة نبض فلسطين ومُقاومِيها يحدث أبناء الأمة من قلب المعركة ليترجّل بعد عَقدين من إغاظة الأعداء وإثلاج صدورِ المؤمنين.

وأخيرا يا ابنتي، لقد كانت الرسالة الأخيرة في خطاب بطلك المغوار قاسية إذ قال: "إنّ رقابكم مُثقلة بدماءِ عشرات الآلاف من الأبرياء الذين خُذلوا بصمتكم"، لكني أحسبكِ من الداعمين لهذه القضية حسب مقدرتك.. بمتابعتك واقتراحاتك الجميلة وبرسوماتك المًميزة، ولتعلمي أنَّ "أبو عبيدة" بحسب رواية عائلته كان بارا بوالديه ويحرص على صلة الرحم وربّى أولاده على موائد القرآن، وكان خلف لثام العِزة تتجلى أخلاق الإسلام العظيمة في شخصه فكوني دائمًا على هذا الدرب.

تعليق عبر الفيس بوك

الأكثر قراءة

z