إسماعيل بن شهاب البلوشي
بينما كنت أشاهد بعض اللقطات التي ظهرت فيها سيارة اللاند روفر الكلاسيكية، تلك السيارة التي طالما ارتبطت في الأذهان بقدرتها على السير في الرمال العربية، ولطالما نرفقها بذكريات التحول من السفر على الجمال وبداية مرحلة أخرى لإنسان الجزيرة العربية، خطرت ببالي فكرة ليست عن السيارة نفسها، بقدر ما هي عن البلد الذي صنعها؛ فهذه السيارة التي وُلدت عام 1948 كانت أيقونة بريطانية بامتياز، وجزءًا من صورة بريطانيا الحضارية، ودليلًا على ما كانت تملكه من روح الابتكار والريادة الصناعية.
اليوم، ومع تراجع حضور لاند روفر الكلاسيكية لصالح سيارات منافسة مثل تويوتا لاند كروزر أو الجيب الأمريكية، لم تعد اللاند روفر إلّا صورا ترفق مع ذكريات القرن الماضي، يبدو المشهد وكأنه انعكاس رمزي لحال بريطانيا نفسها: تراجع من موقع الصدارة، وغياب عن صُنع الرموز التي تلهم العالم.
كانت بريطانيا لعقود طويلة دولة ذات حضور عالمي لا يُخطئه أحد، ترى وتفعل وتقول، وتملك الكلمة المسموعة في السياسة والاقتصاد والحروب وحتى في صياغة القيم الدولية. لم يكن الأمر مجرد نفوذ سياسي؛ بل كان رؤية شاملة للعالم، وإرادة في أن تكون لاعبًا رئيسيًا في كل ساحة.
لكن، ما الذي تغيّر؟
عندما كنت أقرأ في بعض الكتب القديمة التي كتبها ضباط بريطانيون ممن خاضوا الحروب والسياسة، أجدهم يفتتحون صفحاتهم بكلمات إهداء "إلى أولئك الرجال الذين قدّموا أرواحهم وأعمالهم وتفانيهم في خدمة الوطن"، هذه الجملة البسيطة كانت تعبيرًا عن عقلية أُمَّة ترى نفسها في إطار رسالة كبرى.
أما اليوم.. فكثيرٌ من الإهداءات تحوّلت إلى صيغ شخصية: "إلى فلان"، أو "إلى أسرتي"، وكأنَّ الرؤية الكبرى انكمشت من مستوى العالم، ثم تقلَّصت إلى الوطن، ثم إلى الفرد، وأحيانًا إلى العائلة. هذه ليست مسألة شكلية؛ بل مؤشر على تغيّر عميق في طريقة تفكير النخبة وصانعي القرار ومن بعدها الأمة عمومًا.
هل يمكن أن تعود بريطانيا كما كانت؟
من حيث المبدأ، يُمكن للدول أن تستعيد دورها، لكن ذلك يتطلب شجاعة فكرية وقرارات تاريخية وفكرا في الجمع لا في مصالح فردية. والعودة لا تكون بمجرد اقتصاد قوي أو صناعة متطورة؛ بل بأن تستعيد الدولة قدرتها على أن تقول "كلمة سواء" في لحظات الحق الكبرى، وأن تكون ميزانًا للعدل، لا مجرد طرف يبحث عن مصالح آنية.
اليوم، ما يحدث في غزة يمثّل اختبارًا أخلاقيًا وإنسانيًا للعالم بأسره. إنه مشهد تتقاطع فيه السياسة مع القيم؛ حيث يُقتل الأبرياء وتُهدم البيوت ويُحاصر الناس ويموت الإنسان جوعًا في ظروف قاسية. وهنا، من نلوم إذا لم نلُم الدول التي كانت تتباهى بميراثها العريق في الدفاع عن الحقوق والحريات، وعلى رأسها بريطانيا؟
إنَّ بريطانيا التي طالما رفعت راية القيم العالمية، وشاركت في صياغة المواثيق الدولية، مطالَبة الآن بأن تقول كلمة الحق: "يكفي. لا ظلم، لا ضلال، لا ضرر ولا ضرار".
لستُ أطالب بريطانيا بأن تُغيِّر موازين القوى بقرار واحد، ولا أن تدخل في مواجهة مع هذا الطرف أو ذاك، لكن بإمكانها أن تستخدم إرثها السياسي والدبلوماسي المعهود وبقوة حقيقية لا مجاملات إعلامية مُستهلَكة لتقول للعالم: إن الإنسانية فوق المصالح، وإن ما يحدث في غزة وصمة عار على جبين القرن الحادي والعشرين.
وأخيرًا.. إنَّ كلمة واحدة صادقة، تصدر من دولة عريقة كانت ذات يوم "إمبراطورية لا تغيب عنها الشمس"، قد تُعيد شيئًا من بريقها المفقود، وتمنحها احترامًا يعلو على أي نفوذ اقتصادي أو تحالف عسكري. ربما تكون "لاند روفر" الكلاسيكية قد تراجعت أمام المنافسين، والتي لحقت بها إذاعة "بي بي سي" العربية التي كانت تتميز بأجراس ساعة "بيج بن" والتي أيضًا لم تعد إلا ذكرى، خاصة لقدامى الساسة وكبار السن، لكن بريطانيا ليست مُجبَرة على أن تتراجع هي الأخرى.
التاريخ لا ينتظر المتردِّدين، وإنما يُخلِّد أولئك الذين يقفون في لحظة الحقيقة ويقولون: "هذا هو الحق، وهذه هي كلمتنا". وليعلم الجميع، ومن يريد الحق، أن الخالق عز وجل لا يُبقي على من يتردّد في إحقاق الحق ونبذ الباطل، وأن البقاء والقوّة للصالح مهما تعاقبت الأجيال ومرّت السنين.
بريطانيا أريني عظمتك إن كنتِ كذلك في زمان فُقد فيه العظماء.