جابر حسين العماني **
بلغت حرارة الطقس 49 درجة مئوية في كربلاء، ومع ذلك يواصل الملايين من عشاق الإمام الحسين المسير في زيارة الأربعين مشيًا على الأقدام من شتى بلدان العالم، أما العراقيون الكرام فقد حولوا حرارة الشمس إلى مهرجان عظيم من الكرم والجود، يشوون الأسماك واللحوم، ويوفرون السكن والطعام والشراب للزائرين، وكأنهم يعيشون في نسيم بارد، هي لوحة فاقت الخيال والجمال، لن تراها إلا في بلاد الرافدين العراق الشقيق.
العراقيون بأخلاقهم التي تعلموها من سيرة الحسين بن علي يثبتون للعالم في كل عام: أن الضيف إذا قدم لزيارة الإمام الحسين؛ فهو ضيف يجب احترامه وإجلاله، ولا فرق بين عربي وأعجمي عندهم إلا بالتقوى، والجميع يحملون نفس الراية وهي راية الإسلام العظيم والأخلاق المحمدية الأصيلة، والعشق الأبدي لسيد شباب أهل الجنة الإمام الحسين، وكأنهم قلب واحد لا ينبض إلا بحب الخير والسلام للجميع.
ما أجمل أن تزور العراق لترى أخلاق أهلها وكيف يوظفونها من أجل خدمة ضيوفهم، فلا تسمع منهم إلا عبارات الحب والاحترام والتقدير، مثل: "هلا بالزاير" "حياك الله" "هلا بزوار أبي السجاد" "نورتوا العراق" "نخدمكم بعيونا" "حياكم الله بين أهلكم".
أثناء زيارتي للعراق لفت انتباهي أحد أطفال العراق الشقيق، واقفاً على جانب الطريق يحمل طبقا مليئا بالماء البارد، ينادي بحرارة "هلا بالزوار" فإذا به يلمح من بعيد رجلاً مسناً قد سقط على الأرض من شدة حرارة الشمس ولهيبها، فما كان منه إلّا أن ترك الطبق، وأخذ الماء البارد مُسرعًا نحوه، يسقيه ويرش على رأسه ووجهه، محاولًا التخفيف عنه لهيب الشمس، ثم قال له بلطف "تفضل عمي، كن ضيفنا في بيتنا".
ومن أهم اللوحات الجميلة التي يمكن أن تراها في العراق الشقيق خصوصا في زيارة الأربعين هو توافد المسلمين من مختلف المذاهب والطوائف والجنسيات؛ بل وحتى من غير المسلمين، يحلون ضيوفًا على أهل العراق، مما يعكس وحدة المسلمين حول القيم والمبادئ الإنسانية التي حث عليها الحسين بن علي.
لقد قدرت بعض الإحصائيات أعداد زوار الأربعين بملايين الأشخاص، وقد تجاوز عددهم في بعض السنوات 20 مليون زائر، يأتون ليشكلوا لوحة قرآنية أخوية أرادها الله تعالى للإنسان تحمل الكثير من المعاني الأخلاقية وهو القائل سبحانه: "وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا"، وقال: "إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ".
إنها أجواء مليئة بالروحانية الممزوجة بقراءة القرآن الكريم والذكر والدعاء وذكر ما جرى من مصائب ومحن مرَّت على أبناء الرسالة المحمدية.
وما نراه اليوم من مشاهد عظيمة في زيارة الأربعين أنها ليست مجرد تجمُّع بشري ديني أو اجتماعي؛ بل رسالة إنسانية وأخلاقية تحمل الكثير من القيم الخالدة والتي في حد ذاتها تجاوزت المكان والزمان، فزيارة الأربعين والتجمع المليوني يرسل للعالم رسائل مهمة وهي كالآتي:
- أولًا: رسالة الحرية وإقامة الحق وإزهاق الباطل كرفض الظلم والطغيان والاستبداد، وإن الحرية ليست مجرد كلام لا قيمة له؛ بل يتطلب الشجاعة والثبات والإقدام في مواجهة الظلم والظالمين.
- ثانيًا: رسالة العدل والمساوات وعدم السكوت على الظلم والعدوان الاجتماعي والسياسي والاقتصادي فهي تدعو إلى إحياء العدل والوقوف مع المظلومين في العالم.
- ثالثًا: رسالة وحدة الشعوب ونبذ الطائفية المقيتة؛ حيث يسير لزيارة الأربعين الملايين من مختلف بلدان العالم، ليعبروا عن مطالبهم العادلة في إقامة الحق والحرية والعدالة الإنسانية التي دعا إليها الإمام الحسين بن علي، وما أجمل ذلك التلاقي الذي يدعو للقيم والمبادئ الإنسانية التي ينبغي الحفاظ عليها، وهي أرقى وأسمى من الخلافات والصراعات التي تعاني منها بعض التيارات المنسوبة إلى الإسلام الحنيف، والإسلام بريء منها براءة الدم من قميص يوسف.
إنَّ زيارة الأربعين تدعو الجميع إلى التعايش السلمي والتضامن الإنساني؛ فهي رمز عالمي للوحدة والسلام بين الشعوب في عالم يحتوي الكثير من الانقسامات والصراعات.
وأخيرًا.. يُعد الإعلام العالمي من أهم الوسائل في نقل الأحداث العالمية، لذا من الإنصاف أن يؤدي دورًا واضحًا في تسليط الضوء على زيارة الأربعين ونقل أبعادها وأهدافها إلى المشاهد العربي، وذلك أن زيارة الأربعين تجمع الملايين من البشر من مختلف أنحاء العالم، وهي ظاهرة عالمية تعكس القيم الإنسانية النبيلة والأخلاق السامية الأصيلة، ومن الظلم أن يركز الإعلام على احتفالات مثل احتفالات الفاتيكان والتي لا يتجاوز عددها المليونين، بينما يترك أهم حدث مليوني وهو 21.480.525 زائر بحسب ما أعلنت الجهات الرسمية العراقية في سنة 2024 فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ؟
** عضو الجمعية العُمانية للكتاب والأدباء