سعيد بن حميد الهطالي
يقفُ مستشفى المسرة كواحة للسكينة وسط عواصف النفس البشرية وما يعتريها من متاعب، هناك حيث تهدأ الضوضاء الخارجية ليعلو صمت آخر أكثر صدقًا، وأكثر قسوة، وأكثر حاجة للإنصات، في المسرة لا يقاس وجع الإنسان بدرجة حرارته لكن بدرجة غربته عن ذاته، يعرف القائمون على ذلك المكان أن الداء لا يكمن دائمًا في الجسد، أحيانًا يسكن في فكرة خاطئة عششت في العقل طويلًا حتى ظنها صاحبها حقيقة، وأن الخوف لا يأتي من الظلام؛ بل مما نجهله عن أنفسنا حين نصبح غرباء عن دواخلنا، وكل عقل مكسور كان يومًا قلبًا لم يفهم.
ليس الاختلال النفسي كسرًا في العظام يرى بالعين، لكنه شق خفي في النفس يحمل في صمت، فكما لا يختار أحد أن يصاب بكسور جسدية كذلك لا يختار أن ينهك قلبه أو عقله، لكننا نتعاطف مع الجراح الظاهرة بينما نغفل عن الكسور التي تستتر في القلب والعقل، ليس كل من جلس في زاوية وحده مهزومًا، بعضهم فقط جلس ليرمم ما أفسده الضجيج من الداخل، من يبكي بلا سبب غالبًا يحمل في داخله ألف سبب لم يمنح فرصة شرحه!
العلاج النفسي لا يُعيد الإنسان إلى ما كان عليه إنما يساعده ليصير ما يفترض أن يكون قبل أن تكسره الحياة!، فالإنسان لم يخلق ليرضي العالم؛ بل لتحيا روحه حرة تتنفس دون قيود، كم منا يخاف أن يهمس بألمه فيختزنه في أعماقه كجرح لا دواء له سوى الاعتراف به بحرية!
إنَّ المجنون في أعين الناس قد يكون الوحيد الذي تجرأ على أن يصرخ بما نخشى نحن حتى أن نهمس به؛ فهناك ألم لا دواء له إلا الاعتراف بوجوده!
في أعماق كل واحد منا صمت طويل، سؤال ينتظر الاعتراف، هل أنا بخير؟ هل أنا على ما يرام؟ أحيانًا لا يحتاج الإنسان إلى نصيحة إنما إلى يد رحيمة أو كلمة حانية، أو حضن صادق يخبره أن ضعفه لا يقلل من قيمته، وإلى نفس عميق من الإيمان حتى ينهض، وأن القلب لا ينكسر لأنه ضعيف لكن لأنه تحمل أكثر مما يحتمل، الحياة لا تجرحنا بأحداثها تجرحنا بعجزنا عن قول " أنا أتألم" بصوت مسموع.
في أعماق كل إنسان منا مستشفى صغير فيه غرف للنسيان، وأخرى للأمل، وثالثة للصفح، ورابعة للجرح! بعضنا يقفل أبوابها ظنًا منه أن التجاهل سيذيب الألم لكن الجرح الذي لا يداوى يظل يطرق على أبواب وعينا حتى نلتفت إليه.
يا عزيزي! لا يجدي الدواء وحده ما لم يزك القلب بذكر الله، فهو القائل سبحانه "أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ" (الرعد: 28)، فنحن بحاجة إلى طمأنينة القلب التي لا تأتي من مسكنات الألم وحدها إنما من اتصالها بمصدر الحياة بذاته، من السجود الخاشع، ومن لحظة يقين أن الله أقرب إلينا من حبل الوريد، هو الشفاء الذي لا تمنحه المسكنات العابرة.
ليست رحلة الشفاء طريقًا نسير فيه وحدنا، حتى لو بدا كذلك؛ فهناك يد غيبية تمتد إلينا، وتمسك بنا في اللحظة التي نظن أننا بلغنا القاع، وهناك دومًا بصيص أمل ينتظر انفتاح القلب فرصة للعودة مهما ابتعدنا، المهم أن نفتح قلوبنا للنور، ونكسر جدار الصمت، ونمنح أنفسنا الحق في أن تشفى.
أتمنى أن أراكم دائمًا بخير...!