سعيد بن حميد الهطالي
في صباح مُنعش بندى الروح شددنا الرحال أنا وبعض الرفاق نحو الجبل الأخضر، لم تكن الرحلة مُجرد نزهة عابرة إنما كانت أشبه برحلة روحية نخلو بها بعيدًا عن صخب المدن، كانت السماء عند وصولنا صافية نقية، لا تشوبها غيمة، لكن مع اقتراب الظهيرة أخذ المشهد يتغيَّر، راحت الغيوم تتكاثف شيئًا فشيئًا حتى ازدانت السماء بوشاح رمادي ثم ما لبث أن هطل المطر.
جلسنا تحت شجرة علعلان عريقة باسقة جذورها في أعماق الأرض وأغصانها كمظلة وارفة تحمينا من هطول المطر تفتح لنا أذرعها لتجمعنا في حضنها، وكان الهواء عليلًا مُنعشًا يبعث في نسماته روائح الأشجار العطرية التي تميز الجبل الأخضر تزيد المكان سحرًا وتجعل الزائر يود لو يُطيل المكوث في المكان.
وبينما كنَّا نضحك ونتبادل أطراف الحديث أخذني خيالي بعيدًا إلى ما يُمكن أن يكون عليه الجبل الأخضر، تخيلت أكواخًا خشبية صغيرة أنيقة مُتناثرة في السفوح والمنحدرات يضفي عليها طابعًا عُمانيًا خالصًا يعكس هوية المكان تفتح نوافذها على إطلالات الجبل الساحرة كما في مُرتفعات الشمال التركي، ولا يقف الأمر عند الأكواخ فحسب؛ بل يمتد ليشمل رؤى طموحة تستلهم من أرقى التجارب السياحية الجبلية الناجحة حول العالم والتي يُمكن استنباطها وتطويعها لتتناسب مع الخصوصية الفريدة للجبل الأخضر.
فعلى سبيل المثال في سويسرا تنتشر عربات التلفريك التي تربط بين القمم والوديان لتمنح السائح إطلالة بانورامية على جبال الألب مثل هذا المشروع يمكن تطبيقه في الجبل الأخضر ليكشف للزوار جمال المنحدرات والوديان.
وفي النمسا توجد منصات زجاجية مُعلقة على حافة الجبال يشعر فيها الزائر وكأنَّه يحلق في الهواء بين السحاب ويرى تحت قدميه الوادي السحيق.. تجربة كهذه سيكون لها أثر كبير لجذب مُحبي المغامرة والتصوير..
أما في إيطاليا وتحديدًا في جبال "الدولوميت" فهناك مسارات مخصصة للدراجات الهوائية والمشي الجبلي (الهايكنج) مدعومة ببنية سياحية مثل اللوحات الإرشادية ومناطق الاستراحة، مثل هذه المسارات يمكن أن تضيف بعدًا رياضيًا وصحيًا للسياحة البيئية في الجبل.
أما في الإمارات وتحديدًا "جبل جيس" في رأس الخيمة تم إنشاء أطول مسار انزلاقي في العالم ما جعله وجهة عالمية لمُحبي المُغامرة، ونظرًا لطبيعة الجبل الأخضر الشاهقة فهو مؤهل لاستضافة مشاريع مُماثلة تعزز مكانته كوجهة سياحية مُميزة.
أما في المغرب فقد اعتمدت منطقة (جبال الأطلس) على منتجعات جبلية صغيرة تعكس الثقافة المحلية، وتبرز التراث المعماري والحرفي.. هذا النموذج يمكن محاكاته في الجبل الأخضر عبر إنشاء نزل ريفية عُمانية تحافظ على الأصالة، وتوفر تجربة سياحية استثنائية كما حدث في قرية العقر التي شهدت تحولًا مذهلًا بفضل جهود شبابها الذين تكاتفوا ليرمموا بيوتها القديمة، ويحولوها إلى تحف معمارية تنبض بالحياة؛ حيث أصبحت مدرجاتها نزل تراثية مُعلقة، ومقاهٍ بإطلالات بانورامية، ومتاحف تقليدية، ومنافذ تسويقية لمنتجات الجبل الأخضر، والحرف المحلية.. هذا التحول قد أعاد الحياة إلى القرية من جديد وخلق منها لوحة بصرية آسرة تجذب العين والقلب معًا حيث أصبحت النماذج التنموية الناجحة تثبت أنَّ السياحة الثقافية والبيئية يُمكن أن تكون طريقًا للازدهار دون المساس بهوية المكان أو تشويه طبيعته الساحرة.
من خلال بعض هذه التجارب التي تمَّ ذكرها يتضح أن الاستثمار السياحي لا يقتصر على استغلال الطبيعة فحسب إنما يقوم على إيجاد تكامل بين البيئة المحلية والبنية التحتية الحديثة بما يضمن استدامة السياحة ويحافظ على هوية المكان، وإذا ما نقلت مثل هذه التجارب بروح تتناسب مع خصوصية الجبل الأخضر فإنَّ تحويله إلى وجهة عالمية لن يكون حلمًا بعيد المنال.
علمًا بأنَّ مهرجان الجبل الأخضر 2025" استقطب أكثر من 250 ألف زائر مع اختتام فعالياته بميدان الاحتفالات بولاية الجبل الأخضر في محافظة الداخلية" الذي للأسف لم يسعفنا الحظ بزيارته، فمثل هذا المهرجان الموسمي من الممكن أن تعرض فيه المنتجات الزراعية الشهيرة للجبل الأخضر كالرمان والمشمش والدراق والكمثرى والزيتون وغيرها في أجواء احتفالية تربط الزائر مباشرة بالمكان وثقافته الزراعية، ومنحه تجربة متكاملة تتجاوز المشاهدة إلى التذوق والتفاعل.
لكننا لا يُمكن أن نتجاهل التحديات الحقيقية التي تُواجه الجبل الأخضر، وعلى رأسها الزحام المروري الكبير، فهذه مشكلة واقعية يُمكن معالجتها عبر حلول عملية، مثل:
• إنشاء مواقف سيارات مركزية عن مدخل الجبل بحيث يوقف الزوار سياراتهم هناك ثم نقلهم عبر حافلات سياحية صغيرة إلى داخل القرى والمواقع السياحية.
• تطوير طرق فرعية ومسارات بديلة لتخفيف الضغط على الطريق الرئيسي المُؤدي إلى الجبل مع الاعتماد على النقل الجماعي المنظم.
• إدخال خدمة النقل الجوي المصغر في بعض المناطق ليس كوسيلة لتخفيف الازدحام لكن أيضًا كإضافة سياحية جاذبة.
• تنظيم نظام حجوزات إلكترونية للسياح للدخول في المواسم المزدحمة يحدد أعداد السيارات المسموح لها بالصعود يوميًا وذلك حفاظًا على انسيابية الحركة وحماية البيئة من الضغط الزائد.
وأخيرًا.. بهذه الطريقة يمكن للجبل الأخضر أن يُحافظ على جماله الطبيعي وهدوئه، وفي الوقت نفسه يستوعب الأعداد المُتزايدة من الزوار ليُصبح واجهة سياحية عالمية تجمع بين الأصالة العُمانية والتجارب الحديثة المستوحاة من أنجح النماذج العالمية.