وفاء عمر بن صديق - ماجستير في الأدب العربي
إن المجموعة القصصية المعنونة بـ(صديقة الأمل) للكاتبة العمانية وداد الإسطنبولي الصادرة بطبعتها الأولى عن دار (ناشرون وموزعون) عام 2024م حملت بين طياتها تسع عشرة قصة في ثلاث وثمانين صفحة، وقد تناولت في معظمها المرأة بتركيبتها النفسية والاجتماعية، وما تعانيه من تناقضات وصراعات داخلية وخارجية، وما ينتج عنها من تصرفات وأفعال قد تتسق أو تخالف الفضاء المكاني الذي تعيش فيه، وقدمت القاصة هذه القضايا في إطار إنساني عميق بأسلوب سردي سلس، وتقنيات فنية حديثة عزّزت من جمال النصوص؛ وهو ما استوقفني للحديث عن أبرز ما تميز به الأسلوب الفني للكاتبة على ضوء قصص المجموعة.
عمدت المبدعة إلى استخدام أسلوب الأنسنة بإضفاء الحياة للجوامد، واستنطاقها؛ لجعلها تنبض بمشاعر وأحاسيس إنسانية في جو خيالي ساحر، ففي قصة (بعثرة) بُثّت الروح في القلم والورقة، ودار بينهما صراع أشبه بصراع عشيقين انتهى في آخر المطاف بلحظة تؤكد على حاجة كل منهما إلى الآخر، عندما قال القلم ص:27: "هل لكِ غيري تفرشين أحضانكِ له؟"، وردت عليه الورقة: "أنت ملاذي، فلن يسكنك غيري..".
وقد لجأت الكاتبة إلى الواقعية في السرد، فصورت الواقع العماني عبر التركيز على التفاصيل اليومية التي تعيشها الشخصيات ومن خلال الحوار الذي تخلله بعض العبارات والجمل العامية التي تقرّب القارئ من البيئة العمانية، مثل قصة (خور روري) عندما خاطبت العمة (سلامة) ابنة أخيها (زهرة) قائلة: "حتى ما تقولين عمتي ما تذوقت صنع يدك"، وقولها أيضًا: "في مرة لما كنت صغيرة رحت إلى ذلك المكان..".
إلى جانب ذلك، وظفت التاريخ بسياقه الثقافي العماني في السرد؛ إذ تمحورت القصة حول منطقة (خور روري) المسجلة ضمن مواقع التراث العالمي، وما يُروى عنها من حكايات خيالية، وأساطير شعبية، ص14: "من زمان كانوا يقولون يشوفون رجل يلبس أبيض يظهر لهم..".
كما استخدمت القاصة الرمزية؛ بهدف الإيحاء بدلالات عميقة متنوعة ذات أبعاد متعددة، فالآباء في قصة (العروس والحلي) يهديان ابنتهما العروس حلي ومجوهرات موروثة من جدتيها في إشارة إلى المحافظة على الهوية بما فيها من عادات وتقاليد وقيم تحملها العائلة عبر الزمن، ص:53: "واستعدت فاطمة للذهاب إلى عش الزوجية وهي تضع يدها على الحلي حول رقبتها..".
وتنقلت في بعض قصصها بين الماضي والحاضر عبر تقنية الارتجاع؛ لسبر أغوار شخصياتها، ومنحها عمقًا إنسانيًّا عبر ربطهم بالماضي وإبراز انعكاساته على حاضرهم؛ مما يضفي التشويق على العمل الإبداعي من خلال كسر الخط الزمني، ففي قصة (خربشات) يستعيد (محمود) ذكريات طفولته ومراهقته عند تأمله خربشات رسمت على الجدران؛ حيث قال ص:30: "كنت يومها أتصرف كالصبيان، أرسم وجه من أحب بالطبشور على الحيطان". وفي قصة (أمل) الزوجة التي عاشت حياة الغربة مع زوجها، وعانت بين المكوث معه، أم تركه يكابد الوحدة، والرجوع مع ابنتها إلى الوطن، تجلى هذا الصراع من خلال استهلال القصة بمشهد من الماضي ص:22: "في أواخر تسعينيات القرن العشرين لن أنسى هذا اليوم البهي حينما رن الجرس وكانت هي واقفة أمام الباب...".
ولقد تميز هذا العمل الأدبي بشكل عام باللغة المليئة بالصور الفنية التي تمنح النصوص طابعًا شعريًّا مرهف الحس كما في (اختاري الأسود) عند تصويرها مشاعر الفقد لدى الأرملة ص:9: "فهذا حالها منذ سنة تشبثت بتمثال الحب، وحنين الماضي، وسمفونية همسات الحديث الذي كان بينها وبين عزيز".
كذلك اعتمدت المؤلفة على الوصف والتصوير الدقيق الذي يجعل القارئ يتفاعل مع الشخصيات بوجدانه وحواسه، ويدعوه إلى تأمل واقعها، مثل (خيانة) حيث تصف المبدعة ألم البطلة التي خانها جسدها حين استشرى المرض فيه ص:33: "شدة الألم تعتصر ذاتها اعتصارًا، تغمض عينيها فتسقط دمعة حارقة على الخد، تلف جسدها بذراعيها وتشده بقوة..".
أما النهايات فقد كانت مفتوحة في بعض القصص؛ لإشراك القارئ في تخيل مصائر الشخصيات بناء على الجو السردي الذي وجدت فيه، مثل: (خربشات) التي انتهت بمصير مجهول لمحمود ص:30: "غفا محمود وهو يحمل في نفسه حديثًا يطول ذكره، ولكن النوم سلطان لا يرفض له أمر". و(اختاري الأسود) حيث انتهى النص بجنين في أحشاء أرملة تعاني لوعة الفقد ومستقبل موحش ص:11: "فجعلها أنثى تتمنى وجوده لتختار له ثوبًا أسود يعجبه".
إن هذا العمل الأدبي يكشف لنا عن قدرة المبدعة وداد الإسطنبولي على تقديم نصوص تنبض بالحياة، تمزج بين الواقعية والرمزية بلغة شاعرية مؤثرة، وتبرهن هذه المجموعة أيضًا على حس إنساني مرهف ورؤية فنية تنبئ بقدرة الكاتبة على التجدّد والإبداع في ظل تطوير مستمر لأدواتها السردية.