المسافة المتحركة بين مسقط وأنقرة

 

حمود بن علي الطوقي

زيارة فخامة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى سلطنة عمان، بدعوة كريمة من جلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم –حفظه الله–، تمثل فصلًا جديدًا في تاريخ العلاقات العمانية–التركية، وهي أول زيارة رسمية للرئيس أردوغان بصفته رئيسًا للدولة، إلى السلطنة، وقد جاءت بعد الزيارة التاريخية التي قام بها جلالة السلطان إلى جمهورية تركيا في نوفمبر من العام  الماضي، والتي فتحت آفاقًا واسعة أمام التعاون الثنائي في مختلف المجالات.
هذه الزيارة ليست حدثًا بروتوكوليًا فحسب، بل هي إشراقة تؤكد عمق الصداقة بين بلدين يجمعهما التاريخ والاعتدال والحكمة والرؤية المشتركة نحو المستقبل. فقد شهدت الزيارة توقيع عدد من الاتفاقيات ومذكرات التفاهم التي شملت مجالات الطاقة والصناعة والسياحة والاستثمار والتعليم والثقافة، مما يعكس رغبة صادقة في الارتقاء بالعلاقات إلى مستوى الشراكة الاستراتيجية.
وبينما أتابع تفاصيل الزيارة وما حملته من روح التقارب، عادت بي الذاكرة إلى مقالي الذي كتبته عام 2021 بعنوان «المسافة المتحركة بين أرطغرل وأردوغان»، حين تناولتُ فيه المسلسل التركي الشهير "قيامة أرطغرل" بوصفه أكثر من عمل درامي، بل بوصفه مشروعًا ثقافيًا أعاد صياغة الوعي الجمعي للأمة الإسلامية من زاوية التاريخ والهوية.
قلت في ذلك المقال إن بين أرطغرل وأردوغان “مسافة متحركة”، يجمعهما الإيمان بالعدالة والسعي لبناء الدولة القوية، وإن اختلفت الأزمنة والأدوات.

واليوم أجد أن تلك المسافة لم تعد متحركة فحسب، بل اقتربت أكثر من أي وقت مضى، حين تحوّلت رؤية القيادة التركية من إعادة بناء الداخل إلى مدّ الجسور مع الخارج، وخاصة مع العالم العربي والخليجي، وفي مقدمتهم سلطنة عمان.
أردوغان الذي جعل من تركيا قوةً اقتصادية ضمن مجموعة العشرين، أعاد تعريف بلاده كجسرٍ بين الشرق والغرب، بينما تسير عمان بقيادة جلالة السلطان هيثم بن طارق على نهج متزن يوازن بين الأصالة والتجديد، ويؤمن بأن التعاون هو الطريق الأقصر نحو التنمية المستدامة.

من هنا، تتقاطع المسارات وتتكامل الطموحات، فكلتا الدولتين تؤمنان بالحوار، وتضعان الإنسان محورًا للتنمية.
لقد تابعتُ تجربة تركيا منذ التسعينيات من القرن الماضي، حين كانت تبحث عن نهضتها، ورأيت التحول الكبير الذي قادته حكومة حزب العدالة والتنمية منذ عام 2002. نهضةٌ شاملة جعلت من تركيا اليوم قوة سياحية واقتصادية، تحتضن عشرات الملايين من الزوار، وتُصدر التكنولوجيا وتنافس في الأسواق العالمية. هذه التجربة التنموية المُلهمة يمكن أن تكون مصدرًا ثريًا للتكامل مع السلطنة في قطاعات الصناعة، والمناطق الاقتصادية، والموانئ، والسياحة، والتعليم، والثقافة.
إن نظرة سلطنة عُمان إلى تركيا تتجاوز الاقتصاد إلى رؤيةٍ أوسع؛ رؤيةٍ تُدرك أن التعاون الثقافي والتعليمي هو الاستثمار الأعمق أثرًا في الأجيال القادمة. فتركيا بتاريخها وحضارتها تشبه عمان في توازنها بين الحداثة والتراث، وكلا البلدين يعي أن الأصالة ليست حجرًا على الماضي، بل جسرًا يُعبر منه إلى المستقبل.
في زيارته إلى السلطنة  ، بدا الرئيس أردوغان وكأنه يعود إلى بيتٍ يعرفه منذ زمن، إلى أرضٍ تشاركه القيم والمبادئ قبل أن تشاركه الاتفاقيات. وفي المقابل، استقبلته عُمان بروحها المعهودة كرمٌ في الضيافة، وصدقٌ في النية، ورغبةٌ في بناء علاقةٍ تتجاوز الرسمي إلى الإنساني.
اليوم، ونحن نشهد هذا التقارب بين مسقط وأنقرة، نجزم أن العلاقات العمانية–التركية تنمو اليوم على أسسٍ راسخة من الاحترام والتفاهم، وهي مرشحة لأن تكون نموذجًا للعلاقات المتوازنة على مستوى دول المنطقة.

الأكثر قراءة