قصة : حُلم معطّل .12 

حمد الناصري

سحب سعيد الحوز نفساً وابتسم، تمتم، نُجاريها ببعض ما عندنا، لنكتشف ما عندها ونستفيد من صَنعة تحرّرها الذي وُعِدْنا به.. كان الحديث عن الأفلاج وحكاياتها أنفع وأجدى حديثاً عن الدخول في مُهاترات لا فائدة منها، فالحديث عن الخلود، الحياة الأبدية، تصعب عليهم مناقشتها، والبحث في أفكارها وماهياتها.. أمرٌ لا يحتاجونه في حالتهم تلك، وكأنّ سعيد الحوز يُشير إلى جوّ المكان الذي هُما فيه من التحرر والانفلات الأخلاقي.. قالت كاترينا بإنتباهة وضيق .. طيب هاتْ لنسمع.. كُلّنا آذان صاغية.؛ قال سعيد الحوز وهو يبتسم.. جاءت فكرة الافلاج من عبقرية الإنسان وليس من الجان ... فالجان لا يحتاجون للزراعة أو الماء لأنهم قادرون على التنقّل لأي مكان بسهولة ويُسْر وحياة الإنسان لا تهمّهم.. وتفسيري الشخصي لمعجزة بناء الأفلاج وهندسة قومنا أهل وادي جرفة أو وادي نزوة حالياً، ليس بالأمر السهل، فهناك ما هو أعظم، ولكنني سأحدّثك عن هذه المُعجزة ثم نرتقي إلى غيرها.. إنّ هندسة الافلاج مُعجزة الإنسان الأول ، التي أثّرت عليه الحياة الأولى ، بأحوالها ومشاقها ودوافعها ، فإنساننا ، مُبدع ، مُبتكر ، قوي ، شديد وذو عزم ، وكلما صَعُبت عليه فكرة جاء بغيرها، لديه تجارب دؤوبة ، وأعماله نشيطة ، وكل ما يقوم به إنساننا يُحْدث بعض الجُهلاء خلخلة فيه، أو يَنسبونه للقُدرات الفوقية الخارقة أو إلى الأرضية، كالجان والعفاريت والشياطين ، ودعيني أبسّط لك الفكرة ، لو أنّنا عرضنا الهاتف الذكي على رجل عاش قبل ٣٠٠ سنة لقال هذا صندوق سِحري أو فيه عمل شيطاني أو نسجت حوله حكايات السّحر والجن والعفاريت.. قاطعته، كأنّ حديثه، ليس هدفها، وأردفت: ما هو تحصيلك الدراسي؟ فردّ بكل هدوء، أحببت طوال حياتي ما عجز عن فهمه البشر، أشياء نحملها ولكنّنا نعجز أنْ نجعلها كما نشاء ونرغب، ذلك هو الشُعور بالعجز.. قد نشتهي بما علق به الآخر، أشياء لا نحكيها لأحد غير أنفسنا، وضعناها موضع السرية.. ذلك هو العجز بعينه. لا عدالة حتى مع أنفسنا، أشياء نجدها أشدّ جُرحاً في أعماقنا ولم نُبدها اهتمامنا.. تبقى مكنونة في سرية تامة.. ولا تُكتشف إلا من خلال طرفنا الآخر. قالت مدائن كاترينا بمكر النسوة: وهل توصّلت إلى حلّ من خلال تجربة ما؟ ردّ سعيد الحوز وهو حذرٌ من توصيل رسالته كاملة إليها وبوضوح، ففي كل مرة تتعمّد كاترينا الحديث بغموض مُغلف بمفردات لها عندها معنى ومغزى، لذلك ينبغي أن لا يكشف لها أمرهُ ما لم تكن أكثر وضوحاً لما تنتهجه من أسلوب غامض.. بعد سكوت طويل، قالت كاترينا بإستغراب: تعرف حكاية الرجلين والفتاة في الزمن الأول البعيد.. لم يعقب وظل ساكتاً ولم يبزم، فأردفت كاترينا، قتل أحدهما الآخر أي أحد الرجلين قتل أخيه.. كانت تلك بداية شرارة انتشار الشر؟ ابتسم سعيد الحوز وقال، هل يُنسب ذلك إلى الجان والعفاريت أم إلى الإنسان؟ ومن الذي يده آثمة ولطّخت بدماء أخيه؛ الجان أم البشر؟، هذه الحكاية ليست بداية الشرّ ولكن قولي بداية الجريمة وليست بداية الشرّ، فالشرّ لم يبدأ في الأرض، بل كان في الملكوت الأعلى، والإنسان هو من فعّله، مدفوعًا بغواية مَن توعّد بإهلاكنا به.. فالشيطان قرين الإنسان وقرين سوء عمله وتصرّفه وسلوكه الشاذّ؟ هزّت رأسها: صدقت.. لو كفّ أحد الأخوين عن أذى أخيه، لساعدنا في تجاوز مرحلة الشدّة والحقد والجريمة؟ أتعرف لماذا؟ لأنّ الإنسان بهذا السلوك أصبح شرّاني النزعة، لا يقوم بمساعدة غيره ولو بدا به عجز، فغريزة التملّك والتسلطن طاغية عليه.. قال سعيد الحوز معقباً: نعم، قليل منا ـ أي نحن البشر ـ من يدافع عن غيره وقليل من ينصف مظلوماً، وفي كلتا الحالتين هناك أسباب للدوافع. عقل الإنسان قد يحمل الشرّ، وقوّته قد تصنع الشرّ، وفكره لا يخلو من الشرّ، إلا من عصمه الله، وهم قِلّة وبخبث فيه كيد عظيم، قالت: وإنْ ثبت أنك قد أذنبتَ في حقي كيف ستعاقب نفسك؟، ثم عقّبت على نفسها بالمودّة وباللين تمشي الأمور وبالأخذ والعطاء تسهل الحكاية. إذا أردت أن نترك الحوارات والسرد فهات لنا تفاصيل الحكاية، جاوبني، بصراحة وبمكاشفة واقعية دون الهمس والغموض والسرية، فنحن تركنا النقاء يصدح في بعضه إلى أنْ يكون الشيء شاهدٌ للنقاء، وجئنا ولا يزال النقاء في مَلمسه الأوّل.. عقّب سعيد الحوز بكلام نثري كالشعر، قائلا: لو سقط الداخل في غمضة / فهل من محنة سابقة / وإن رأى نُقطة مُهملة / في قيعانها لا شيء مختلف/ كالشعر أطلال من عِوج/ والنثر في سرّها ظُلل.
وردّت كاترينا بكلام أقرب إلى أفكار ماكرة: لا مودّة في لدغٍة لا تصل إلى عُمق لدغتها وإنْ بدا اللادغ كظاهر القول فالجروح تبقى في عُمقها.
هما يتماشيان إلى صالة بدت أوسع من صالة يمرّون عليها سيراً إلى قاعة الاحتفالات، التي تحمل اسم " قاعة 79 الليلية" في الدور الخامس التي هي أقرب من الغرفة 56 غرفة سعيد الحوز ، التي أهداها له صديقه ميلاد إبراهيم في الفندق الفخم فور تعارفهما، غرفة في فندق البستان تساوي السّكن في قصر مُصغر، قالت كاترينا بخبث: غدا الاربعاء يوم ميلادي، تدعوني إلى سَهرة أم إلى...؟ أردف سعيد غاضباً.. تدعُوني إلى سهرة، ليس بها قِيم ولا حياة ولا مُثل، تدعُوني لأغضب ربّها، وأنا أدعوها إلى آفاق لا يتسلّل إليها حُزن؛ حياة فيها أمل، حياة واسعة مُبهجة، لا غضب فيها ولا شدّة، حياة مردّنا إليها بأنفس نقية وقلب سليم.. قالت كاترينا وكأنّها لم تهتم لقوله: قل أين سنكون.. أين تكون سهرتنا؟ ردّ سعيد الحوز باستفزاز.. اسهري في غرفتي فهي تحمل رقماً مختاراً بعناية 56.. هي غرفتكم، حجزها لي صديقكم ميلاد إبراهيم.. ردّت باندهاش وتعجّب: ماذا تقول سعيد.. أين الدقّة هنا.. رقماً عادياً.. إني لأظنّك مُخادعاً، أو تكون ممنوعاً، أو فاقد صواباً أو أحدٌ من الناس منعك أو فتاة أخرى حجبتْ عنك الخير؟ أو تكون مسحوراً، وهذا أغلب الظنّ بأنّك سُحرت بغيري. ثمّ تقول بأنّ ميلاد إبراهيم هو الذي حجز لك الغرفة في الفندق الفخم أو كما أسميته قصر مصغّر.. أتعلم من هو ميلاد إبراهيم؟ عقّب سعيد الحوز مُستغرباً.. من هو؟ عقّبت كاترينا : إنّه مدير الفندق وشريك فيه ورئيسه التنفيذي.. ردّ سعيد مندهشًا: كل تلكم المُسمّيات الوظيفية وأنا لا أعلم حقيقته إلا من عندك، ربما خطأي بأني لم أسأله.. ردّت كاترينا: وإن سألته لن يُجيبك.. إنه رجل متواضع، يحبّ الحياة والناس.. طاف على سعيد الحوز شريط الذكريات مع ميلاد إبراهيم.. ما رأيك لو حجزت لك في ذلك الفندق الضخم الذي أعمل فيه، فربّما تجد فيه عمل يُغنيك، فأنت باحث عن عمل.. ولعلنا نشتغل معاً.. وإن أعجبك من أوّل يوم، فاعتبر نفسك واحداً منا.. نحن نعمل بالفندق في خدمة الزبائن ونسعى لخلق راحة بال لهم.. فالخدمة الفندقية لها تعريفات مُختصّة بها ، تختلف عن غيرها من الخدمة.. قالت كاترينا وكأنّها تنتشله من أفكاره وخيالاته التي سرح بها: أتعرف أنّ ميلاد إبراهيم يعمل في الفندق الضخم وله عشر من السنين ويعرف كل شيء عن هذه البلدة، وهو الذي أطلق على الفندق اسم فندق البستان.. دعني أحدّثك عن بعض مفردات لا تعرفها بالفندق.. غرفة 56 غرفة ضيف خاص.. صالة 79 صالة ليلية لا يدخلها أحد ما خلا الشخصيات المعروفة لدى إدارة الفندق.. غرفة 2525 غرفة خاصة بالرئيس التنفيذي ميلاد إبراهيم وهي عبارة عن جناح خاص.. غرفة رقم 230 غرفة لمن هو أعلى مسؤولية تنفيذية من ميلاد إبراهيم وهي عبارة عن جناح خاص.. لا تُسمى الأجنحة إلا في الطابق 4، لكن هاتين الغرفتين تتمتّعان بالخصوصية والسرّية التامّة، وهما بأعلى مكان في الفندق.
هذا الفندق رغم ضخامته، ومنقوشاته الداخلية الفخمة، إلا أنّ عدد غرفه لا يزيد عن 230 غرفة، يرتفع الفندق إلى خمسة طوابق علوية وثلاثة طوابق سفلية، به أجنحة خاصة ومطاعم عربية وأخرى غربية.. فندق البستان كأنه قصر، اسم على مُسمّى، وبه إطلالة على بحر خاص للفندق وعلى بستان صغير كخلفية للفندق.

ثم قالت بذكاء وتحدّثت بحذر شديد ... الغرفة 2525 غرفة تتميّز بالخصوصية؛ محذورة على الجميع، يسكنها ميلاد إبراهيم، ومن مفردات أرقامها كالتالي: الرقم 2 من اليسار يعني يوم ميلاد إبراهيم وهو الرجل الثاني في التنفيذ بالفندق والرقم 5 يوم استعداده للرحيل ومغادرة أرض أثينا والرقم التالي 2 من اليسار هو يوم يرمز إلى بلدكم أي يوم وصول ميلاد أرضكم، والرقم 5 الأخير هو يوم الإعلان عن إقامة أوّل حفل ضخم بالفندق.. هذا الرقم قد تغير، فقد سبقه رقم مختلف.. كان جناح ميلاد إبراهيم يحمل رقماً عشوائيا لكن له دلالات في البرمجة العقلية، 28 فـ 2 يوم ميلاد عظيم و8 هو تاريخ نجاحي بعد قصّة عشق مع الموسيقى، فقد تقدّمن ثمانية فتيات لمسابقة اختيارية، وكلهن عشقنَ الموسيقى، وكنت أنا أولى الناجحات، ذلك فوز عظيم، ربحت العمل كعازفة وراقصة ومغنية في هذا القصر التراثي، ليكون دليلا على تلاقح التراث المحلّي مع حضارة امتدت سنين من أمجاد صُنعت على عين رجل عظيم بإرادة وقوة وعزم وهيبة جلال التراث المحلي القديم.

ضحكت ضحكة، ولم تستطع مقاومة ضحكتها بل استمرت في التدفّق، بينما ظلّ سعيد ساكتاً يُفكّر.. تُرى من هؤلاء.. وماذا تعني الأرقام التي يحملها كل منهم؟

يتبع 13

تعليق عبر الفيس بوك

الأكثر قراءة