هند الحمدانية
آثرت أن ألوذ بالجبل الأخضر في هذا الصيف، هنا حيث يتباطأ الزمن، ويغدو للهواء طعم الماء، قضيت أيامي بين عائلتي وهدوء لا يشبه سواه، وفي باحة البيت، وقفت ذات صباح أمام شجرة نسيتها الفصول، وقد ارتدت هذا الموسم ثوبا لم أعهده، أوراقا زيتونية لامعة، وثمار خضراء تتدلى كحلم ناضج.
لقد كانت شجرة عتم، زرعها الأجداد قبل عقود، تشبه الشيوخ في انحنائها، وفي صمتها الطويل، العام الماضي طعمناها بغصن زيتون، تجربة بسيطة لم تكلفنا شيئا، واليوم ها هي تثمر، نظرت إليها كما ينظر إلى طفل كان مريضا وشفي، فاهتز داخلي وتفاءل وبدا لي أن كل ما في الجبل كان يبتسم لها.. وهنا بدأت الحكاية.
الجبل الأخضر ليس مجرد مزار سياحي تلتقط فيه الصور وتنتثر فيه ضحكات الزائرين، بل هو نص خام لم يقرأ بعد، وكنز في هيئة طبيعة، لم تكسر أختامه بعد كما ينبغي، وبين وديانه وسهوله ثمة شجرة.. صامتة.. خجولة.. لا تصرخ مثل النخيل، ولا تستعرض مثل الورود، لكنها تقف هناك منذ قرون، وتملئ السفوح، إنها شجرة العتم، التي تسمى بالزيتون البري.
تنتشر هذه الشجرة النبيلة في الجبل الأخضر انتشار القصائد في دفتر شاعر، لكن لم يستثمر حضورها كما يجب، ولم تقرأ كمشروع، بل كخلفية طبيعية للمناظر، فيا للعجب أن تظل شجرة بهذا العدد، وهذا التحمل، وهذا التاريخ، مجرد ظل على طريق.
يغطي العتم مساحات شاسعة من الجبل الأخضر، أشجار باسقة وصلبة، تخفي بداخلها إمكانية التحول، فحين تطعم بغصن زيتون، لا تقاوم، لا تذبل، بل تستجيب وتثمر.
ولعل أجمل ما في هذا التحول، أنه لم يتوقف على الشجر وحده، بل طال الإنسان أيضا، فلقد تغيرت ثقافة الزراعة في الجبل الأخضر كما تتغير الحكايات حين تروى من جيل إلى آخر، فأولئك البسطاء الذين عاشوا لسنوات يزرعون الرمان والمشمش والورد، كأنها طقوس محفوظة، بدأوا اليوم يخوضون تجارب جديدة، ويدخلون أصنافا لم تألفها التربة سابقا، والجبل كعادته لم يعترض، بل احتضن هذه الفواكه والخضار الغريبة كأنها من صلبه، حيث نشأت ثقافة زراعية جديدة لا تهدم الماضي، بل تبني فوقه، وتحول البساطة إلى احتراف، والتجربة إلى علم.
نعم.. لا خيال هنا، بل علم مجرب، شجرة العتم قابلة للتطعيم بأغصان الزيتون، ومع هذه الخطوة الذكية البسيطة، تولد معجزة زراعية واقتصادية في قلب السلطنة.
هل نتحدث عن شجرة؟ لا.. نحن نتحدث عن أكثر من 100 ألف شجرة زيتون محتملة في الجبل الأخضر وحده، تخيل مردودها، كم من زيت صافي ونقي يمكن أن تحصل عليه؟ كم من فرصة عمل؟ كم من علامة تجارية يمكن أن تخرج من هذا الجبل مكتوب عليها "زيت الجبل الأخضر _سلطنة عمان".
إن وزارة الزراعة وهي الجهة الأولى المعنية بهذا الملف، تملك مفاتيح هذه الفرصة، فعملية تطعيم العتم ليست مكلفة، ولا تتطلب ميزانيات ثقيلة، هي تحتاج فقط إلى قرار وفريق متخصص وبعض الوقت، فهل تدرك الوزارة كم يمكن لهذا المشروع أن يحقق من دخل؟ وكم سيمنح من فرص عمل لأبناء القرى المحيطة؟ كم سيحول الجبل الأخضر من مجرد جهة طبيعية إلى وجهة إنتاجية؟ لن تكون المسألة زراعة فقط، بل تصنيع وتغليف، وتصدير وتسويق وترويج سياحي وغيره.
ثم إن هناك بعدا آخر، وأعمق، فتطعيم العتم ليس فقط عملية زراعية، بل هو أيضا فعل ثقافي، يعيد للشجرة البرية معناها، ويخرجها من الهامش إلى المتن، بالإضافة إلى أن الجبل الأخضر ببساتينه وبتاريخه بحاجة لمن يعيد قراءته، بحاجة لوزارة تفهم أن الزراعة اليوم لم تعد مجرد محاصيل، بل استراتيجية سيادية، توازن بين الأمن الغذائي والدخل المستدام والصورة الذهنية لعمان.
تخيلوا لو أطلقنا مشروعا وطنيا تحت اسم: " تحويل العتم إلى زيتون"، خطوة أولى نحو مشروع مثمر، لا يحتاج أكثر من قرار ورؤية، يمكن أن يحول الجبل الأخضر إلى أول وادٍ للزيتون في الخليج العربي، لا ينافس أحدا بل يؤكد فرادته.
وما المانع؟ أليس هذه الأرض، ذات الأرض التي كانت ومازالت تثمر الرمان والعنب والخوخ؟ أليس في مناخها ما يجعل الزيتون يبتسم؟ أليس في شجر العتم نفسه، هذا الجذع الجلد ما يشتهي الغصن المطعم؟ لماذا لا نجرب؟ لماذا لا نبدأ؟!
أيها المسؤولون في وزارة الزراعة: إننا لا نطلب المستحيل، بل نشير إلى الممكن، لا نتحدث عن مشاريع ضخمة ومعقدة، بل عن قرار صغير، يبدأ بغرس الفكرة، والإيمان بها، وينتهي بجني بركات ثمار زيتونها.
انظروا إلى الجبل بعين أخرى، فالجبال كما الأوطان، لا تثمر إلا حين نؤمن بها، وإذا رأيتم شجرة عتم، لا تمروا بها كما يمضي الغيم عن حجر، فربما فيها زيتون ينتظر أن يولد.