هند الحمدانية
قالوا: لماذا لم يُكمل التقرير؟
قلنا: لأن الرصاصة سبقت التحرير.
قالوا: وماذا نكتب في سطره الأخير؟
قلنا: اكتبوه في الصفحة الأولى... شهيداً وشاهداً على المصير.
في غزة لا تلتقط الصور بس تستخرج من تحت الركام كما تنتشل الجثث، فالصحفي هناك لا يسرد الأحداث، بل يُدفن في تفاصيلها، لا يروي الواقعة، بل هو الواقعة نفسها، لا يُمسك بالكاميرا من أجل مهنة، بل لأنها آخر ما تبقى له من مقاومة، في المكان الذي تحكمه طائرات الطواغيت تصبح العدسة جرم، وتعتبر التقارير الصحفية المكتوبة والمرئية خيانة يجب تصفيتها، هناك لا يُفلت حامل الكاميرا من العقاب، لأنه شاهد ولأن عينه مفتوحة، ولأن اصبعه يضغط على زر التوثيق كما لو كان يُطلق النار على الاحتلال.
لا يختبئ المصور الغزِي خلف جدار الحياد، بل يقف في وسط الساحة، صدره مكشوف وصوته مبحوح، وجُملته الأخيرة ليست تصريحا صحفيا، بل نظرة أخيرة في عدسة مبللة بالخذلان، لا يملك سوى الضوء، ولا يتدرب إلا على اختيار الزاوية الأقل ألماً، فهو لا يرسل مادة للنشر، بل يرسل نبضه وما تبقى من حياته، ثم يرحل.
من ماتوا في غزة لم يكونوا مجرد صحفيين مناضلين، كانوا فدائيين من طراز آخر، لا يركضون نحو النار ليطفئوها، بل ليلتقطوا احتراقهم واحتراقها، هشام النواجحة لم يستطع كتابة تقريره الأخير، ونور قنديل لم تودعنا برسالة، بل بصورة وحيدة لها، تشهد أنها كانت هنا وزوجها خالد أبو سيف وطفلتهما الصغيرة، وأن العدسة صمدت للحظة أطول من القذيفة، وأن كل صورة اُلتُقطت قبل الانفجار، كانت تشبه آخر نفس في رئة الحقيقة.
قتل أكثر من 210 صحفي في عام ونصف، إنه ليس مصادفة، وليس مجرد تفصيل مؤلم في صفحة الحرب، بل هو رقم لا يتسع له الضمير العالمي، هو إعلان رسمي عن اغتيال الحقيقة ودفن الشهود وتصفية العيون التي ترى وتبصر.
قد يقول قائل: هذا ليس جديدا، فالصحفيون عبر التاريخ كانوا أهدافا في مرمى الأعداء، ففي الحرب الأهلية الإسبانية قُتِل كل من كتب ضد الجنرال فرانكو، وفي البوسنة سقط عشرات الصحفيين خلال القصف المتبادل والمعارك العشوائية، لكن الحال في غزة مختلف، فالقاتل لم يعد يخفي سلاحه، بل يُبرر رصاصه، ولم يعد يدفن الجثة سراً، بل يبث صور العدسة المكسورة على الشاشات، لم يعد ينكر الجريمة، بل يسميها حق ودفاعاً عن النفس.
ما يحدث في غزة ليس تكرارا، بل تصعيد نحو الإبادة الجماعية، هو عملية ممنهجة ومدروسة لاغتيال الذاكرة، لأن قتل الصحفي يعني محو الشاهد، ومحو الشاهد يعني فتح المجال لكل الأكاذيب الصهيونية الأمريكية أن تستمر وتتكاثر.
لكن غزة بكل من فيها لا تعرف الاستسلام، وكل صحفي يسقط يُبعث صوته من تحت الركام، وكل صورة يُطمس نورها، يُشعِلُ فتيلها ألف مصباح، العيون لا تنطفئ حين تُغلق، بل حين تصمت، وصحفي غزة لا يعرف الصمت، هو يصور حتى اللحظة الأخيرة، يرفع الكلمة والكاميرا كما ترفع الأم طفلها الشهيد، يخاف أن يفوته المشهد، أو أن تُغتال الحقيقة دون أن يشهد لها.
وفي الطرف الآخر من الوطن العربي العاجز، هناك من خذل العدسة، فالصمت العربي صار موقفاً والخذلان أصبح سياسة، صار هناك من يدين المقتول لأنه لم يصمت، ومن يبرر للمجرم لأنه "يدافع عن حدوده"، وهناك من يرى العدسة "تحريضاً"، والكلمة مادة "مسيَسة"، والمجزرة "تفصيلاً معقداً في مشهد جيوسياسي"، هكذا تحول العجز إلى مذهب والجبن إلى منهج والحياد إلى خيانة.
الصحفي الذي يُقتل اليوم، لا يُقتل لأنه يحمل سلاحاً، بل لأنه يملك الشجاعة أن ينظر في عين الجريمة، لا يُستهدف لأنه يُقاتل، بل لأنه لا يُساوم، لأن عينه لا ترمش أمام الإبادة، لأنه يقف هناك حيث لا يقف أحد، ويصور ما يخجل العالم من أن يراه.
ومع ذلك... فإن الموت لا يوقف النور، بل يحرضه، فالعدسة التي تنكسر، تصبح مرآة، يرى القاتل فيها نفسه: عارياً .. مرتجفا ً .. كاذباً، وحين ترتجف يد الصحفي قبل سقوطه، تكون تلك الرجفة آخر نبض في ضمير العالم الحر.
في زمنٍ سقطت فيه المرجعيات الأخلاقية، يصبح نقل الحقيقة جهاد، حين يُقتل من يوثق، ويُدان من ينقل، فلا يبقى أمام الشرفاء سوى الكلمة، لهذا نقول لكل صحفي شريف، في كل مدينة، وفي كل بلد، ومن أي منبر، لا تتراجع.. لا تضعف.. لا تصمت، ارفع الكاميرا ولو كنت عاري الظهر، اكتب ولو كانت الكلمات تهتز بين أصابعك، لأنك حين تفعل، فأنت لا تنقل حدثاً فحسب، بل تعيد رسم مسار المعركة، وتصبح جنديا مُناضلاً في وجه الطغيان، فالصحفي الحقيقي لا يختبئ خلف الموقف، بل يصبح هو الموقف، فيا أنتم، حيثما كنتم، في مكاتبكم، وفي شرفات الأخبار، أو بين أعمدة الجرائد، يا من تكتبون للعالم وتوقعون بالحبر في نهايات التقارير، اكتبوا هذه المرَة بالحقيقة وحدها: إن الصحفي في غزة لم يكمل سطره الأخير... لأنه كُتِب عليه أن يختم تقريره بدمه.