الكاتب حمد الناصري
خلف الصالة رقم 79، تأتي غرفة خاصة تحمل نفس الرقم ولكن بدون الإشارة إليها.. تبدو الغرفة السريّة، خاصة بـ “مدائن كاترينا " ودعتْ كاترينا سعيد الحوز الشاب الشرقي ابن البلدة العتيقة أو وادي نزوة.. دعته إلى الغرفة السرية " الخاصة بها " حتى تكون أقرب لمراجعة حصاد إنجازات علاقتهما وإخفاقات مودتهما، قالت كاترينا.. سعيد، في هذه الغرفة لن يعلم بك أحد، ولم يسمع أحد لصوتك، حتى لو علا إلى سقف الغرفة.. يرجع إليك مكتوماً، لا تسمعه غير نفسك، حتى صدى الصوت قد لا تسمعه.. فاختار ما بدا لك.. وقل ما في جُعبتك.. واستردّ عافيتك من خلال علاقة لا وسوسة فيها ولا تخوّف.. مطلقاً أعدك بذلك... لم يبزم سعيد الحوز بكلمة.. وظل كاتماً صوته وكأنّ لا حسّ له ولا هسيس.
تبدو الغرفة كعالم مختلف فجدرانها مليئة باللوحات والمُجسمات، غرفة كأنها عالم خاص يُوحي إليك أنها غرفة لفنان يهوى الرسم ويحترفه كمهنة.. تلك الصور والرسوم زادته حِيرة رغم أنه شغف بها، ولأنهما لوحدهما في الغرفة، زادته حِيرة مُبهمة مُغلفة بغموض يتصاعد إلى نفسه، أفكاره مُشتّتة، لا يرى فيه شيء غير سراب بِقِيعة غير نافع، يغلب عليه ظنٌ ساكن في أعماقه.
قالت مدائن بدلع زائد، إنه يوم ميلادي، لا أتنازل عنه مهما بدت من أسباب، في هذا اليوم يكون متاعي كاملا أو لا يكون متاعاً أبداً.. لم يفهم سعيد الحوز كلامها ولم يَعقل حديثها، وبدا وكأنّه مشتّت ذهنياً.. عقّبت كاترينا ماذا ستجلب لي من هدايا؟ تمالك سعيد رغبته في البوح عن إفلاسه وطغت رجولته وغلبت صراحته المعهودة فقال سعيد الحوز : أنا رهنَ إشارتك وما نستطيع إليه لا نتردّد من الوقوف معك؛ اقتربت منه وأصبحت المسافة بينهما قريبة، أقلّ ما تُوصف به بأنّها مسافة حميمية.
بدت كاترينا كعاشقة ولْهى مُتحيّرة في أمرها.. تمتم سعيد الحوز محدّثا نفسه: علّ هذا الولهَ تمثيلية من تدبير ميلاد إبراهيم وسَحر وأخته خولة تبغي من ورائها استمالتي والسيطرة عليّ وإيقاعي في شباكها! ثم من هي سَحر الجميلة، هل هي أخته الأخرى أو زوجته أو...؟ ثم وجّه سؤالاً إليها، وأريد الصراحة والحقيقة.. من هي سَحر؟ وما قرابة كاترينا أو مدائن بـ ميلاد إبراهيم؟ فردّت كاترينا، تثق بي أو لا تثق، وتعي حقيقة ما أقول أم لا تعي.. هزّ رأسه ولم يُجِب.. إنْ كنتَ في دربي فسيكون لك حظاً من التفاصيل، ستكون في النعيم وفي دِفئها ونعومتها، وأعدك بأنْ تُدلف إلى عالم الأحلام وتعيش حياة أسطورية لا يعيشها غير السّعداء. فعقّب سعيد الحوز بهدوء: طيّب قولي، أنا كلّي آذان صاغية.. قالت كاترينا: ليس هذا ما أريد، فالحال يقتضي الفِعل والفِعل بالعمل، وكلّ عمل بأجر وكلّ أجر له مُقابل ـ أي فِعْل ـ والفعل هنا، له وزن وقيمة.. ثم أدلفت إلى مذياع تسجيلي لصوت الفنان محمد عبده " تنشد عن الحال حالي كيف ما شفته/ وأنا أحسب إنّك قبل ذا الوقت تدري به/ في خاطري لك كلامٍ مير ما قلته/ أجنّبك ما يحسّك لو حياتي به/ همٍ جديدٍ على الأوّل تحملته.
صفّق سعيد الحوز، وقال: صوتك جميل جداً، صوتك غنائي بحت، وفيه بحّة صوت عالية الالتواء.. قالت كاترينا: حتى في الغناء لديك معرفة وفهم.. دُلّني على هذا الكنز المُخبأ في أعماقك. قلْ بربّك سعيد، من أنت؟ حلّفتك بربّك الأعلى قُل الحقيقة ولا تخف.. أأنت.. وسكتت.. واستأنفت كلامها.. أدخلتَ شكاً إلى نفسي ، لا يبدو أنك باحث عن عمل، ولا تبدو كإنسان بسيط؟ ولهذا منحك ميلاد إبراهيم فرصة العيش في الفندق الفخم، كان حدسهُ متوقّعاً، أو لعلّه يرغب في فهمك ومعرفتك بشكل أعمق. لا ليجزيك كصديق له.. ابتسم سعيد الحوز، دحىَ بوزه قليلاً، وقال: جاوبي على سؤالي الأوّل.. من هي سَحر.. وقد عرفنا أنّ خوله أخته ومن هي مدائن بالنسبة لـ ميلاد إبراهيم.. وما هو عملكم الحقيقي؟ ولماذا جئتم إلى هنا؟ سكتت ولم ترد.. قال سعيد الحوز وهو يُثني وسادة كان قد وضعها على فخذيه، وكثّف الأسئلة فوق بعضها: وماذا يفعلنَ صديقاتك في الفندق؟ ولماذا جئتم كثلاثة نساء ورجل؟ وإن كان ميلاد إبراهيم رئيساً تنفيذياً كما تقولين، فلماذا ينزل إلى مستوى.. سكت.. وكأنّ الكلمة طبقت في حلقه.. ثم أردف إلى مُستوى الوسيط؟ كلمة قوية كصفعة في الوجه، لكنّها وبذكاء حاد استهجنت الأسئلة وضحكت.. وأردفت: جئنا لنفعل الكثير.. وكأنّها تختبرهُ بإجابتها، لكن سعيد الحوز ظلّ كعادته الإنسان البسيط الذي يجهل معظم الأشياء غير ثقافة يحملها، تراث وتاريخ وعادات وقيم ومبادئ وأدب تقاليد القرية العتيقة وسِمات أهل وادي جرفة وإنسانية وادي نزوة. عقبت كاترينا مرة أخرى: هل تُحب شيئا منهما.. كلنا في خدمتك طالما أنت في خدمتنا وفي مُنتهى السرية.. دلع لسانه بقدر بوزه.. وابتسم.. ليت كاترينا تُعرّفني ماهي وظائفكنّ وماهي وظيفة ميلاد إبراهيم في مسار حياتكنّ.. سكت برهة.. وكالمُنتبه من غفوته، قال: تُبدين لي شخصية غامضة، هل تُخبّئين شيئاً مُريبًا نحن لا نُدرك كنهه؟ وكأنّه يُحاول أنْ يستفزّها بطريقة غير مباشرة.. تلفّتت يمنة ويسرة وقالت: لا شيء يحتاج إلى توضيح أكثر ممّا تراهُ العين.. ولا شيء ورائي ولا قُدّامي. ههههه تضاحكا، أردف سعيد: يا سلام عليك، حتى النُكت لك فيها شأن.. وعينها في عينيه، وهو يُبادلها النظرة القوية، وقد غرز في عينيها شِدّة مأخوذة بالموقف، ولتغيير الحدّة المُتبادلة، أردفت: دعنا من هذه النُكَت التي في غير محلها الآن.. المُهم سأخبرك فاسمع ولا تبزم بشيء حتى تكون سعيداً بغير حرَض وحتى لا أتعب نفسي ولا أشقّها في معرفة التفاصيل.. صديقتي " خولة " القصيرة، ذات الأنف الصغير والوجه العريض، تُعرف بـ خزائن في بلدها، وهي أخت ميلاد إبراهيم، وتعمل معه في الفندق، بالإضافة إلى عملها الأساسي كخادمة في فيلا أحد كبار مدراء الفندق وهو " ميلاد إبراهيم" وفي المساء تُمارس هواية الرقص والمساج.. أما صديقتي الأخرى، سَحر الناعمة، لها صدى كالموسيقى وهي مُهتمة بالآلات الموسيقية ومُغرمة بها إلى درجة الإفراط، ولحن صوتها جذّاب يسحر الأنفس والأعين معاً، وزوجها ميلاد إبراهيم، وهما سُعداء بتفاهمهما وبطريقتهما فرحين وفخورين بما يُقدّمانه من عمل وكلاهما عازفان لكبار الشخصيات في حفلات خاصة خارج العمل الوظيفي بالفندق.. تمتاز سَحر بجسد كلحن موسيقي ،كعذوبة ألحان يونانية رائعة باذخة.. وكما علمت أنّ أباها من بلد العظمة والطبيعة الساحرة؛ اليونان، وأمها من بلد الموسيقى والمشاعر والرومانسية؛ تركيا.. أمها أستاذتي التي علّمتني الفن، هي من علّمتني الرقص والاحترافية والفن وعذوبة الصوت، وأنا مدينة لها بتقبّل نفسي والانسجام مع الحياة، إذا رأيت" إيرين " أم سَحر وابنتها سحر وأنت لا تعرفها لن تستطيع القول إلا أنهما توأم.. وما أدراك ما إيرين، فهي السلام والمحبّة والحياة الجميلة.. فـ إيرين أم سَحر هي خالتي، فأمي يونانية وأبي تركي من بحر قزوين، نحن عائلة واحدة مُتقاربة، الفن هو روحنا يدبّ في أحشائنا ونحن له عاشقون.. أمّة الأتراك اشرأبّت من دماء قارتين رائعتين، وشربت من خمسة أبحر، بحر إيجة في الغرب وبحر السواد في الشمال والمعروف مصطلحاً بالبحر الأسود والبحر الأبيض الذي لا بياض فيه البتّة، فهو بحر كبقية البحار، ماء لا لون له، تراه من قريب أزرق وفي العُمق يكون غامقاً وكلما ازدادت الأعماق بدا مُظلماً كحال بقية البحار العميقة وهو يحدّ تركيا من الجنوب، وبحر صغير، يرجع إلى بحر السّواد أي باتجاه الشمال الغربي للبلاد ويُعرف ببحر مرمرة.
أمّا ثالثة الأثافي.. فهي كاترينا حبيبتك.. قلت لك سابقاً من تركيا، لأن أبي من تركيا، ولكنّي أحبّ أثينا.. وأمي من أثينا، وكلاهما لا يختلفان كثيراً عن بعض، وربما تركيا أقرب إليكم إلى جزيرتكم العربية، جزيرة الرمال والأعراب لإعتبارات كثيرة، ربّما أوّلها أنّ تركيا عرفت بالدولة العثمانية وكانت لها سيطرة قوية وكبيرة على الأعراب والرمال الذهبية.. وأمّا بلد أمي وبلدي التي اعتزّ بالانتساب إليها " أثينا" اليونانية، فهي بلد الجمال والتاريخ والعراقة والحضارة والحياة الرائعة.. اليونان منذ قديم الزمن، هي استثنائية في الطبيعة والجمال.. سحبت نفساً عميقاً ثم أردفت: أتعرف عنها شيء يا سعيد؟ لوّح رأسه نفياً.. قالت كاترينا، ستراها ذات يوم بأم عينيك وستأخذك إلى حيث جمالها الفتّان، جمال باذخ في طبيعة خلابة لا تمتلكها أعرق البلدان. يبدو أنّ زيارتها مُواتية الآن برفقة ابنتها البارّة بتصنيفها كواحدة من أعرق الحضارات بل هي من عجائب الدنيا، فكل الاشياء العجيبة والغرائب والقدرات الخارقة كانت من صُنع الإنسان اليوناني. قال سعيد الحوز: نعم قرأت عنها الشيء القليل.. هي من أقدم المدن في العالم.. وتاريخها طويل حافل بالعراقة والثقافة الإغريقية. قالت كاترينا: الآن سُررت بك كثيراً، فأنت بجانب كونك قروي، وإبن بلدة ريفية لكنك قارئ ومُطلع.. وهذا ما يُبهرني فيك.. وهو الأمر الذي يُوحي إلينا.. وسكتت. ثم عقّبت.. صديقتك كاترينا عالم من الإبداع والطاقة الجسمانية الحيّة.. كل من يُعاشرها مرّة ويُجالسها يستجيب لها طائعاً ولِهاً، بكل حواسه، فـ كاترينا، غرائزها خافية عن أنظار الناس إلا من عينيك، وفيها نعومة تحوي قوّتها الخفية التي لا تُدرك إلا ساعتها.. عالمها روحي مُغلق خاص لا يستأثر به أحد، إلا الذي يستحقّه، إبداعها مُؤثر، وشغفها باهرٌ لا مثيل له في النشوة والحميمية النابغة.. قال سعيد الحوز في سرّه، مُستهجناً توصيفها: إنْ كنتِ نابغة، فماذا أبقيت للحُكماء والعُقلاء وفلاسفة الفكر والأدب.. شعرتْ كاترينا أنّ سعيد الحوز يحادث نفسه فيها، أو هو يتخيّلها في مواضع مُختلفة.. فأردفت: يبدو من الوهلة الأولى بأني أكبر من ابنة خالتي سَحر لكنها هي التي تكبرني سناً، وتبدو للناظر غير المدقّق بأنّها تصغرني سِناً.. ولكن الحقيقة، نحن في تتالي.. يقولون إننا توأمان وُلدنا في رَحِمَين مُختلفين، حتى أعمارنا متقاربة ومُنسّقة إلى حدّ كبير.. أنا في سنّ الـ 20 وسحر وخزائن، في عمر الـ 21 سنة، ويُقال بأنّ أعمارنا تقاربت ببركة الربّ.
يتبع 14