د. ابراهيم بن سالم السيابي
الاقتصاد همّ لا يمكن تأجيله، وتنمية الاقتصاد الوطني الشغل الشاغل لأي حكومة، والمحور الذي تدور حوله بقية الملفات: التعليم، الصحة، الخدمات، والوظائف، ومهما حاولنا أن نتجاهل هذا الموضوع أو نؤجله، نجد أنفسنا نعود إليه من جديد؛ فبدون اقتصاد قوي ومتنوع، لا يمكن الحديث عن رفاهية للمواطن، ولا عن عدالة في توزيع الفرص، ولا عن مستقبل آمن للأجيال القادمة.
إن هذا الهمّ الاقتصادي لا يعني فقط الأرقام في تقارير مالية، بل هو إحساس يومي يعيشه الناس في تفاصيل حياتهم، من فرص العمل، إلى كلفة المعيشة، إلى جودة الخدمات. لذلك، فإن إعطاء هذا الملف حقّه من النقاش والفهم والتطوير، لم يعد خيارًا، بل واجبًا وطنيًا.
ويمضي اقتصادنا في مسيرته كما تمضي الأنهار بين الصخور؛ يصطدم أحيانًا، ويتراجع أحيانًا، لكنه يبحث دومًا عن مجراه الطبيعي، ومن الطبيعي أن تمر كل دولة بتقلبات وتحديات اقتصادية، لكن الخطر لا يكمن في التحدي بحد ذاته، بل في طريقة مواجهته، وفي مدى استعدادنا للتغيير.
لقد بقي اقتصادنا الوطني لعقود طويلة يعتمد على النفط كمصدر رئيسي للدخل، وهذا الاعتماد لم يكن خيارًا خاطئًا في زمنه، لكنه اليوم أصبح عبئًا استراتيجيًا؛ فكل تراجع في أسعار النفط ينعكس فورًا على الموازنة العامة، ويؤثر على المشاريع، والوظائف، والاستقرار المالي للدولة، ومع تعاظم التحديات العالمية، بات من الضروري أن ننتقل من اقتصاد يعتمد على ما تخرجه الأرض وحدها، إلى اقتصاد يقوم على ما تخرجه العقول.
ومما يزيد المشهد تعقيدًا، أن الدين العام أخذ يتضخم في سنوات سابقة ليصبح رقمًا ثقيلًا في جسد الاقتصاد، ومهما شهدنا من تحسن مؤقت في بعض المؤشرات، تبقى الاستدانة خيارًا محفوفًا بالمخاطر، لا يمكن أن تُبنى عليه ركائز المستقبل، فالدين ليس مجرد أرقام في تقارير رسمية، بل هو عبء على الجيل القادم، وحدّ من مرونة الدولة في اتخاذ قراراتها المالية والاقتصادية.
وإذا تحدثنا عن المؤشرات الإيجابية التي تحققت في السنوات الأخيرة، فهي كثيرة؛ منها سداد جزء لا بأس به من الدين العام، والتحسن الواضح في كفاءة الإنفاق والتوازن المالي، مما أسهم في تحسين مركز السلطنة الائتماني مؤخرًا إلى درجة "استثمارية"وهو تصنيف يعكس التقدم الكبير الذي شهدته السلطنة في الأعوام الأخيرة بفضل السياسات المتبعة، إلى جانب التحسن في أسعار النفط وزيادة مساهمة الغاز.
ومع ذلك، فإن الأرقام تُظهر استمرار الاعتماد الكبير على قطاعي النفط والغاز، إذ بلغت مساهمتهما في ميزانية الدولة لعام 2025 ما يقارب 68% من إجمالي الإيرادات الحكومية، موزعة تقريبًا بين 52% من النفط و16% من الغاز، بينما لا تزال مساهمة القطاعات الأخرى ضعيفة وبعيدة عن الأرقام المستهدفة في نهاية رؤية "عُمان 2040"، وهو ما يؤكد الحاجة الماسّة إلى تسريع وتيرة الإصلاح، وتعزيز التنوع الاقتصادي.
ومن المهم أن ندرك أن النهوض بالاقتصاد ليس مسؤولية الدولة وحدها، بل هو مسؤولية وطنية جامعة، يشارك فيها القطاع الخاص، والأفراد، والمجتمع المدني، والمؤسسات الأكاديمية، والإعلام، وغيرهم، فبناء اقتصاد متين يتطلب تضافر الجهود، لا مجرد انتظار المبادرات الحكومية من الأعلى.
والحلول ليست بعيدة المنال، لقد رأينا دولًا واجهت تحديات شبيهة، ثم نهضت بقوة. فدولة مثل ماليزيا، التي لا تملك ثروات نفطية كبيرة، تحولت إلى مركز صناعي وتقني في جنوب شرق آسيا بفضل التعليم التقني، وتمكين القطاع الخاص، ومحاربة البيروقراطية، أما دولة رواندا، الخارجة من حرب أهلية، فقد أصبحت نموذجًا إفريقيًا في الحوكمة الرقمية وتشجيع ريادة الأعمال.
وإذا أردنا أن نلحق بركب التحول، فلا بد أن نُغيّر منطقنا في إدارة الاقتصاد، لا يكفي أن نُراهن على مشاريع ضخمة من أعلى، بل علينا أن نعيد الثقة إلى المشاريع الصغيرة والمتوسطة، وأن نبني اقتصادًا يُشرك الناس، لا ينتظرهم، فالاقتصاد لا يُبنى بالوعود، بل بالحاضنات، والتدريب، والدعم، وتسهيل الإجراءات، وخلق بيئة منافسة وعادلة.
ولعل من أبرز المسارات التي يمكن أن تسهم في بناء اقتصاد أكثر توازنًا واستدامة، التوجه نحو تخفيف القيود على تأسيس المشاريع الفردية والعائلية، وإعادة ربط التعليم بسوق العمل من خلال تعزيز التخصصات التقنية والمهنية بدلًا من الاقتصار على المسارات النظرية، إلى جانب دعم المنتجات المحلية من خلال التشريعات والمشتريات الحكومية، وإشراك المحافظات في خطط التنمية لتقليل المركزية وتحقيق قدر من التوازن الاقتصادي بين مختلف مناطق السلطنة، كما يُعد تحفيز الاستثمار الأجنبي النوعي أحد المحركات المهمة، شريطة أن يكون استثمارًا منتجًا يُحدث أثرًا حقيقيًا في الاقتصاد الوطني، ويخلق فرص عمل ملموسة للباحثين عن عمل، لا أن يظل محصورًا في مشاريع هامشية أو عقارية، ومن الضروري أيضًا التفكير الجاد في إيجاد حلول متوازنة للتعامل مع الدين العام، سواء من خلال تفعيل أدوات التمويل الإسلامي، أو إعادة جدولة السداد بما يراعي متطلبات التنمية، أو حتى دراسة إمكانية تأجير أو بيع بعض الأصول الحكومية غير الحيوية، بما لا يمس بالسيادة الوطنية وبضمانات واضحة للشفافية والعائد المجدي، ومن المفيد في هذا السياق ألا نتردد في الاستفادة من التجارب الدولية الناجحة، مع التأكيد على مبدأ الشراكة لا التقليد الأعمى.
في الختام، اقتصادنا لا يحتاج إلى معجزة، بل إلى وعي جماعي وإرادة صادقة، فالأمل ليس ترفًا في عالم الاقتصاد، بل ضرورة، وعُمان، بتاريخها وكفاءاتها ومواردها، قادرة على أن تكون قصة نجاح، بشرط أن نتحرك.
فالغد لا يُصنع بالأماني، بل بما نزرعه اليوم من ثقة، وما نبنيه من جسور، وما نفتحه من أبواب، ولعل الأهم من كل ذلك، أن نستعيد إيماننا بأن التغيير ممكن، وأن الإصلاح ليس موجة عابرة، بل مسيرة تبدأ من أصغر فكرة وأبسط مشروع، وتمتد لتشمل وطنًا بأكمله.