سالم بن محمد العبري
حين ترى قامته الساطعة السامقة تحسبه يود وضع كفه الأيمن على (القنة) واليسرى على (جبل السوادي)، وحين تسمع عن كرم تواصله وعطائه ترى إنسانًا يمتد بامتداد كرمه، وحين ذهبت للعزاء واخترت آخر الأيام والساعات حتى نتحاشى الزحمة التي لا تمنح فرصة جيدة لمزيد من الحديث والفهم وجدت مجلسه الذي أسسه منذ عقدين.
وقد نكون أثناء زيارته بصحبة أخي السيد الدكتور سعيد بن هلال البوسعيدي قد تناقشنا في الشأن البنائي والملاحظات، حين حاذيت المجلس قبل نزولي من المركبة تنادى لي أن المجلس لم ينفض، فلما دخلت أشار المستقبل أن آخذ محاذاة اليمين وهي عادة كأن الحضور لم يبارحوا ليتنفس الجالسون الصعداء هواء وفسحة استرخاء، فلمّا أن بلغت منتصف المجلس بمواجهة الباب الرئيسي فإذا بالأخ الشيخ سعيد بن ناصر السيابي وحيث إن الزحام يخلط الحابل بالنابل قلت أين (يونس فهو أكبرهم وألصق بنا؟ فأخذوني إليه، فلما انتهت التعزية والتحايا اهتم بمكان جلوسي بالصدارة، قلت لا تشغل نفسك. أنا أجلس بمحاذاة الشيخ السيابي، فصار قرير البال؛ إذ هو المكان الذي يرتضيه لي.
بدأ الحضور ينسل مغادرا فاقترب مني الأخ يونس، وأمامي بعض نفر من خليجنا العربي، قلت مَنْ هؤلاء؟ فقال لي يونس: كان أبي الحاج عبد الرحيم بن عبد الرحمن عائدا من إحدى جولاته وزياراته في الساحل وكان على مقربة من (إمارة العين) و(محافظة البريمي) وكان قد توفرت من بعد الإكرامات والهدايا والعطايا بعض الكراتين من الحلوى الغزوانية لبابا واسما مستحبا له، فلمح هذا الشخص فتوخى المعرفة به فأمر بتهدئة السير وصرخ بالأخ تعال يا أخي، فتعجب المنادى. فإذا بالحاج الغزواني تعلو قامته غير العادية ويكاد المارة كلهم يقفون إجلالا واحتراما، فقال له: خذ ما بقي من الحلوى كرتونين واقرئ السلام والتحيات لكل الأهل. فتعجب (المحظوظ؛ أهو رزق ساقه الله إليه أم هو أخ لم أعلم به من قبل، وهنا فعلت الصدفة، كما فعلت بالبدوي مع يوسف عليه السلام.
فحين تراه بالحمراء تحسبه يطاول بيوتها العالية كبيت الصفاة والبيت العالي الذي صار منذ ما يزيد على نصف قرن، وتجديده الجزء الشمالي منه بإشراف أبي رحمهما الله، وكنت أعني بتقديم التمر والقهوة للعاملين العُمانيين وكلهم من الحمرا، وكانت صينية تمر من الفرض أو النغال تؤكل يوميا، وأجمع (أنا) النوى والتمرات التي لا تؤكل وتبقى نافعة للحيوانات فلما تملأ (قفيرا صغيرا) أخذتها للسوق فتدر علي بعض البيسات، وكان بعض إخوتي من الأقارب يستغربون حين يجدون السارق بمندوس أمي المخصص لي يزدحم بالبيسات هذه.
كان الحاج في بداية صداقته بالوالد الشيخ سعيد بن مهنا بن حمد العبري التي تناهز أعمارنا ربما يستغرب الناس من طوله، كما هو يتعجب من حارة الحمراء تنظيميا وبناء ومن جلسات السبلة بـ(سبلة الصلف) في الضحى وبعيد الظهر حتى قبيل صلاة العصر ويزداد إعجابه حين يوجد للموال، ويرى السواقي المتحدة من الشمال للجنوب من ساقية الحارة أومن الجنوب للشمال من (ساقية السحمة) تفصل بين الباقيين الترعة التي تصب بها المياه الزائدة (ساقية الرس) فلما بدأت النهضة الجديدة بعد تولي السلطان قابوس- رحمهما ربي- الحكم (في يوليو 1971م) وبدأ التوسع في البناء. فخرجنا من الحارة إلى المساحات الواسعة في (الطويان) والمخططات الجديدة.
ما عاد الحاج عبد الرحيم الغزواني البلوشي يُرى بالحارة؛ بل يقصد صديقة الخاص بـ(المحيدثة) حيث بني الوالد سعيد عدة منازل، بنيت له إحداها الذي هو قرب المجلس شمالي المسجد، ربما وجد الحاج أن زيارته السريعة للشيخ أفضل هنا حيث لا يضطر لوصول كل الآباء وأسرع للدخول ولسرعة العودة، كأن يأتي بوصله وعطائه من الحلوى والعود والصوف من المصار، وكان الوالد سعيد يقدم له التمور الخاصة المنتقاة.
فلما اتسع مال الحاج وصلاته وأصبحت التمور تأتيه من كل مناطق عُمان ودول الخليج أخذ الوالد يقدم له السكر الأحمر المنصور والمطبوخ؛ بل والمزروع بالمنطقة، ثم وما إن هذه المادة أصبحت تستجلب ويقل قصب السكر زراعة، أخذ الوالد ينظر ماذا يقدم له يوازي كرمه، بل يبقى يفكر قبل أن يحل الحاج بداره ماذا يهيئ له ليحمله مع عودته حتى لا تعود السيارة خالية وقد امتلأت عند قدومها.
حين وجدت الحاج عبدالرحيم في سبلة الشيخ عبدالله بن حمدون الحارثي في زيارة لي سريعة للشيخ الحارثي وجدت الحاج مع الشيخ وكأنه بمنزله بالصومحان ببركاء، مرتاحًا مادًا ساقه للراحة فهو بمنزل شيخ كريم وأخ عزيز وكان الطعام قد قُرِّب له ووصل في توه، وبدأ الشيخ الحارثي مسرورا بحضوري ولكن قد يكون الطعام حضر حسب طلب الحاج وكما يريد، قلت كما تعلم، أيها الشيخ القطب هذا الوقت ليس وقت عشاء ونحن قد فرغنا من الغداء من ساعة أو نحوها ولوكان لنا حاجة للطعام لنزلنا محل الحاج فهو منا وأبًا وأخًا لكل رجال عُمان الكرام من أمثالكم ومقامكم، هنا تبدو شخصية الحاج عبدالرحيم كريمًا مضيفًا، يصل الكرام في كل الخليج ويصلوه ذكرا ومودة وعطاءً، ورحيلهما المتقارب زمنيًا يُنبئ بقرب أخوتهما وصحبتهما. والله ندعو أن يرحمهما ويرحم كل موتانا إنه سميع قريب مجيب الدعاء.