"ميدان سمحان" يتنفس عبق لبان ورائحة يود

 

خالد بن سعد الشنفري

قد لا يعرف الكثيرون من مواليد ما بعد عصر النهضة العُمانية المباركة التي انطلقت من قصر الحصن العامر بصلالة لتعم كافة أرجاء عُمان والعالم في ظهيرة يوم الثالث والعشرين من يوليو 1970، هذا الشهر المجيد في تاريخ عُمان الحديث والذي نعيش أيامه حاليًا في أجوا خريفية رائعة والذي يتجدد علينا كل عام،  لا يعرفون أنَّ موقع فعاليات سوق اللبان هو نفسه موقع ميدان سمحان بالحافة سابقاً والذي يحفه من الشمال مسجد الشيخ عبد الله المواجه للبحر والذي لاتزال تؤدى فيه الصلوات الخمس، أما بقية مساجد الحافة التاريخية الخمسة الأخرى والتي منها مسجد (محضار) الذي يُعاد بناؤه حاليا على نفقة امرأة فاضلة من الحافة مشكورة ـ جعله الله في ميزان حسناتهاـ ومسجد باحيوة الموغل في القدم والذي أصبح ضمن مخطط سوق الحافة التراثي الجديد والذي يتبع شركة أساس المستثمرة لمشروع السوق ويقع خارج منطقة الحافة التراثية وقد كنَّا ولازلنا نأمل من هذه الشركة والتي تعتبر ضمن الأذرع الاستثمارية للحكومة أن تقوم بإعادة بناء هذا المسجد التاريخي على نمط تُراثي  يتجانس مع السوق ـ وهو مسجد صغير المساحة ويقع غرب الحافة بمحاذاة سور حصن القصر وأن لا يتم التحجج بوجود مسجد الحصن جنوب السوق لعدم إعادة بنائه لأنه مسجد حديث شُيد بعد عشرة أعوام من عصر النهضة مع مئات المساجد في عُمان بخلاف مسجد باحيوة التاريخي، ومنها أيضا أربعة مساجد أخرى داخل السور المؤقت الحالي حول المنطقة التراثية والتي يجري حالياً لهذه المنطقة ولا زالت تعتبر تحت الأشغال بعد استكمال مرحلة التصاميم والرسومات التخطيطية التفصيلية للمشروع وبدء الترميم الفعلي المبدئي لبعض بيوتها بواسطة شركة الحافة مشكورين، ومن الغرب يحده تمثال الرحالة والتاجر الصيني الشهير(تشنغ هه) الذي كتب عن الحافة بدوره بعد أن زارها قبل عدة قرون، ومن الجنوب يحدها بحر العرب.

للأسف أن هذا الموقع الذي احتضن فعاليات عودة الماضي في موسمي خريف 2022 و2023 ثم تمَّ نقل فعالياتها فيما بعد إلى مساحة أوسع في منطقة السعادة حيث ضاق المكان السابق بزواره في السنة الثانية له من شدة التوافد إليه،  وقد أحزن ذلك حينها الكثيرين سواء من أبناء المحافظة أو زوارها وكان حزنهم مبررا حينها لأنه ببساطة مكان يصعب هجره مهما كان المكان المراد الانتقال إليه، إلا أن بلدية ظفار مشكورة وكما عودتنا دائما على حسن تدارك الأمور والتكيف معها سريعاً عوضتهم عن ذلك خير العوض بإقامة فعالية بديلة هي فعالية سوق اللبان، لتعمل الأسر المنتجة فيه وقد كان في ذلك التعويض خير عوض وفيه عزاء لهم،  حيث حولته في موسم الخريف الماضي 2024 إلى سوق للبان ومشتقاته من بخور وعطور ومجامر وغيرها من منتجات الأسر الحرفية، ليس ذلك فقط بل استبقت الكثير من الفعاليات السابقة الأخرى فيه من ثقافية وفنية ترفيهية وتراثية وغيرها، وقد حسن ذلك مقرا لمثل ذلك، فتمازج وتزاوج في نفس المكان عبق لبان مع رائحة يود البحر مع شجي الألحان الغنائية الظفارية الشهيرة وفنونها التقليدية الرائعة وثقافة الموروث وسط أجواء خريفية ضبابية وتزامن ذلك مع أصوات هدير وزمجرة أمواج بحر العرب المعتادة في الخريف وحفيف أغصان نخيل النارجيل الشامخة تحكي بدورها من علو قصة السفن الشراعية وسفن البضائع الخشبية والمسافرين والهوري والسنبوق والضاغية وتحفهما جميعاً سريالية بيوت الحافة الثراثية وسوقها التراثي في ثوبه العصري الجديد، ليشكلا معاً لوحة بانورامية خالبة للألباب تجمع بين الأصالة والمعاصرة، تسقي فيها السماء الأرض برذاذها المتواصل لتنبثق هذه الأخيرة بدورها تحت أقدام واطئيها نبتا وزرعا واخضرار ويأبى بحر العرب الحارس الأمين بدوره إلا أن تكون مشاركته مضاعفة كعادته على ظفار فينثر نسمات هوائه الخريفية العليلة على الجميع  ليندمجوا معه بكل حواسهم، سمع وبصر، وشم، ووجدانا فيتركوا العنان لهذه الجوارح لتسبح في ملكوت هذه البانوراما التي قل أن يجود بها الزمان على مكان واحد فيسلمون له أنفسهم ليبحر بهم.

صدق من قال؛ التاريخ يُعيد نفسه، فها هو تاريخ ميدان سمحان يُعيد نفسه بحق وحقيقة في ثوبه الجديد القشيب، وليس ذلك عليه بغريب فقد كان قديمًا ملتقى ليس لسكان الحافة فقط بل الوافدين إليها من مختلف أرجاء ظفار وقد كانوا كثر أيامها، ولمجاورة سوق الحصن العامر وأسواق ظفار الرئيسية لها حتى أطلقوا عليها آنذاك مسمى (شبذيت ثيريت) باللهجة الشحرية أي الكبد الرطبة التي كانت تعاملهم بها فيطيب لهم الورود إليها، وكانت سوقاً تاريخيا حتى في زمن حضارة البليد حيث كانت سوقاً لها وتسمى بالحرجاء، (ولهم سوق بربض يدعى الحرجاء) {كتاب تحفة النظار لابن بطوطة}، كان أهل الحافة على هذا الميدان يلتقون وعلى رمال شواطئه الناعمة يتحلقون في حلقات مسائية بعد عصر كل يوم، يتجاذبون أطراف الحديث أو لعب الألعاب الشعبية ومنها ما يسمى لعبة (الثبت) الشبيهة بلعبة الشطرنج والتي تحرك العقل قبل أصابع اليد التي تتنقل بالحصى الصغير بين مربعاتها ويتبادلون الأخبار وعلوم مجتمعهم  من زرع وضرع وبحر وتجارة وأخبار المسافرين والعائدين، وللشباب أيضًا لعباتهم مثل، (كرة القريع) ولعبة (اليوس) وكذا للأطفال ألعابهم كلعبة واحشيبوه وغيرها وغيرها، والكل في انسجام ووئام ومحبة ..كان كل ذلك سابقا وقد تواردت هذه الذكريات على مخيلتي بتدفق وأنا أقتعد الكرسي على البحر أمام مشهد الفعالية في هذا اليوم الأغر الثلاثاء 15 من يوليو أول أيام فعاليات خريف ظفار 2025، ومن سياق هذه الذكريات ومن وسط هذا المشهد الذي أعيشه الآن والذي أخذني إلى هناك إلى ذلك الزمن الجميل آثرت أن أنقل لكم  لقطات من هذه الذاكرة من سيل دفاق من هذه الذكريات الجميلة التي انهالت على مخيلتي ومنها أيضا؛ أنه كانت تفد إلينا في هذا الميدان زوامل هبوت القبائل في أعراسنا من مختلف مناطق  صلالة ومناطق أبعد أحيانًا، يأتون لمشاركة أهل الحافة أفراحهم وكذا يفعل أهل الحافة بدورهم يردون ذلك بالمثل سواء في ميدان الجامع بصلالة الوسطى أو ميدان أو غب صلالة الغربية، واخر تجمع مهيب في العصر الحديث شهدته في ميدان سمحان ـ ولكي لا أطيل عليكم كثيراً في الإسهاب سأختم به ذكرياتي الخاصة هذه - (فقد اتهمني البعض للأسف بأنني منحاز للحافة!! ـ ولكن بالله عليكم كيف يمكن لإنسان ألا يصف أكثر من أي شي آخر أول ما التقطه بصره في هذه الحياة والمكان الذي اختطته قدماه ابتداء مشيًا على الأرض، فأرجو أن تجدوا  لأخيكم ولو مجرد هذا العذر من ضمن سبعين عذرا نحن مطالبون بأن نجدها لإخواننا)، كان هذا المشهد في عام 1973حيث كان ميدان سمحان مقرا رئيسا على مستوى المحافظة لجمع التبرعات للمجهود الحربي العربي ضد إسرائيل تحت شعار (تبرعك بريال عُماني يشتري رصاصة لقتل صهيوني محتل) وأتذكر أنني اجتهدت كثيرًا في جمع مبلغ الريال لأقتل به ذلك الصهيوني المحتل.

في الختام أتمنى من بلدية ظفار ألا تغفل ذكر هذا الاسم التاريخي للموقع (ميدان سمحان) ولو بلوحة في مكان بارز هناك يذكر فيها اسمه لأنه ببساطة تاريخ ووجب توقير واحترام التاريخ خصوصًا أنه قد أعاد نفسه بقوة حتى بعد أن أهملناه نحن للأسف الشديد لزمن طويل.

كل خريف والجميع بخير وسعادة وهناء.

الأكثر قراءة